للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا تركنا المديح إلى الهجاء وجدنا معالم التطور فيه أعمق وأوسع منها فى المديح الخالص، إذ كان يتصل بحياة الشعب والعامة اتصالا لعله أدق من اتصال المديح، وهى حياة لم يعد أساسها العصبيات القبلية كما كان الشأن فى العصر الأموى، ومن أجل ذلك ضعف فن النقائض لقيامه عليها إلا أسرابا قليلة كانت تظهر من حين إلى حين. ولكن إذا كان هذا الفن ضعف، فإن الهجاء لم يضعف بسبب التنافس الشديد بين الشعراء، وقد عمت فيه روح جديدة، إذ أخذوا يريشونه سهاما مصمية.

ويخيل إلى الإنسان أن أصحابه لم يتركوا مثلبة خلقية أو نفسية فى شخص إلاّ صوروها، وكأنما يريدون أن يطهروا المجتمع منها، ولم يتورعوا أحيانا عن هجاء الخلفاء والوزراء، كلما رأوهم ينحرفون عن الجادة على نحو ما هو مشهور عن دعبل. وبذلك يصبح الهجاء الصحيفة التربوية المقابلة للمديح، فالمديح يرسم المثالية الخلقية لهذه التربية، والهجاء يرسم المساوى الفردية والاجتماعية التى ينبغى أن يتخلص منها المجتمع الرشيد. وقد تبارى الشعراء فى رسم معانيه، تارة يخزون وخز الإبر، وتارة يطعنون طعنات قاتلة، من ذلك قول بشار فى هجاء ابن قزعة بشحّه (١) فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين

إذا جئته للعرف أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين

وقول أبى تمام مصورا غيرة شخص لا فى موضع الغيرة من نسائه، وإنما فى الغيرة على طعامه ورغفانه حتى لكأن كسر رغيفه كسر عظم من عظامه، بل لكأنه فتك به أشد الفتك، يقول (٢):

صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البر من قسمه (٣)

قد كان يعجبنى لو أنّ غيرته ... على جراذقه كانت على حرمه (٤)

إن رمت قتلته فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه

وأهم ليقة غمس فيها الشعراء هجاءهم ليقة الاستخفاف والتهوين والتحقير،


(١) ابن المعتز ص ٢٦.
(٢) الديوان (طبعة بيروت) ص ٤٥٩ وقارن بعيون الأخبار ٣/ ٢٤٦.
(٣) ألميته: قسمه وحلفه.
(٤) الجراذق: جمع جرذق وهو الرغيف، معرب كرده.

<<  <  ج: ص:  >  >>