للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النفس بما يصور من تعانقها فى الحياة، تصويرا يدل على عمق غوره فى الإحساس بحقائق الكون، وبترابط جواهرها، حتى الجواهر التى تبدو متضادة، فإن بعضها ينشأ من بعض، ويلتقى التقاء وثيقا، على شاكلة قوله (١):

ربّ خفض تحت السّرى وغناء ... من عناء ونضرة من شحوب (٢)

وجعلته صلته بالمنطق والفلسفة يكثر من استخدام الأدلة المنطقية، وهى عنده تستمد من نفس إحساسه العميق بتشابك حقائق الكون، فإذا بعضها يرى من خلال بعض، بل إذا بعضها يتخذ دليلا وحجة على بعض، من مثل قوله لمن عذلته على ضيق ذات يده (٣):

لا تنكرى عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالى

وقوله فى تحبيب الرحلة عن الأوطان (٤):

وطول مقام المرء فى الحىّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد (٥)

فإنى رأيت الشمس زيدت محبّة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد (٦)

ويتسع التأثر بالفلسفة عنده حتى ليشيع الغموض فى كثير من أبياته، وهو غموض بهيج كغموض الطبيعة فى الصباح والغروب إذ يجلله دائما شفق يأخذ بالألباب، ونعجب إذ نجد القدماء يحملون عليه من أجله (٧)، كما حملوا على إكثاره من اللفظ الغريب ومن التصاوير وألوان البديع (٨)، حتى قالوا إنه أفسد الشعر، وهو لم يفسده بل هيأ له ازدهارا رائعا، تسنده فيه ثقافة واسعة بالفلسفة والمنطق، وبالشعر العربى قديمه وحديثه، كما تسنده قوة ملكاته التى جعلته يعدّ بحقّ حامل لواء الشعر العربى فى عصره، بل جعلته صاحب مذهب مستقل بخصائصه العقلية والزخرفية، أما الخصائص العقلية فتتضح فى دقة معانيه وغوصه على طرائفها


(١) الديوان ١/ ١٢٦.
(٢) الخفض: سعة العيش. السرى: السير ليلا، غناء: نفع.
(٣) الديوان ٣/ ٧٧.
(٤) الديوان ٢/ ٢٣.
(٥) مخلق: من أخلق أى أبلى. ويريد بالديباجتين الوجه والمكانة الأدبية.
(٦) سرمد: دائم.
(٧) انظر مناقشتنا لهم فى كتابنا الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة السادسة بدار المعارف) ص ٢٣٩ وما بعدها.
(٨) المصدر نفسه ص ٢٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>