للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد ساسنا هذا الزمان سياسة ... سدى لم يسسها قطّ عبد مجدّع

تروح علينا كلّ يوم وتغتدى ... خطوب كأن الدهر منهن يصرع

وقد أشرنا فى الفصل السابق إلى أنه هو الذى ألهم ابن الرومى والمتنبى الشكوى من الزمن وما يصبه على الناس من البلاء وما يتصل بذلك من حكم، وأيضا فإنه هو الذى ألهم المتنبى اعتداده بنفسه وما طوى فى ذلك عنده من فخر محتدم، واقرأ له هذه الأبيات التى ساقها بعد نسيبه فى مديحه للحسن بن سهل (١):

وغرّبت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرّقت حتى قد نسيت المغاربا

خطوب إذا لاقيتهنّ رددننى ... جريحا كأنى قد لفيت الكتائبا

وقد يكهم السيف المسمّى منيّة ... وقد يرجع المرء المظفّر خائبا (٢)

وكنت امرءا ألقى الزمان مسالما ... فآليت لا ألقاه إلا محاربا

وهو نفس نغم الفخر والاعتداد بالنفس الذى نلقاه عند المتنبى مع ما يمسح عليه ويتخلله من شكوى الدهر، ومع ما يسوده من الشعور بقوة النفس وصلابتها وأنها أقوى عودا وأصلب من الزمن، فهى لا تتخاذل أمامه ولا تضعف بل تحاول أن تقهره وتطعنه الطعنة المصمية.

وكان أبو تمام يضيف إلى نسيبه أحيانا وصفا لبعيره وما يقطع من الفلوات، مستمدّا من معانى القدماء فى هذا الوصف ومضيفا طرائفه الحديثة، كقوله يصف بعيره وما أصابه من هزال لطول رحلته به إلى خراسان ليمدح ابن طاهر (٣):

رعته الفيافى بعد ما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهلّ ساكبه

فالصحراء بطرقها الوعثة كأنما هى التى رعته إذ أضمرته وأنحلته، بينما كان يرعى أعشابها، وهو تضاد بديع، فهو يرعى الصحراء والصحراء ترعاه. وقد ألم بوصف الخمر فى بعض مقدماته للمديح، وهو ليس ممن يجيدون فى وصفها، لأنه لم يكن ممن ينغمسون فى إثمها، وقد يلقانا عنده بعض أبيات طريفة فيها كقوله (٤):


(١) الديوان ١/ ١٤٧.
(٢) يكهم: لا يقطع.
(٣) الديوان ١/ ٢٣٠.
(٤) الديوان ١/ ٣٤

<<  <  ج: ص:  >  >>