للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا تتجاوز التاسعة، وتذوقه لها فى هذه السن الباكرة يدل ذلك على أنه كان قد حفظ كثيرا من الشعر، حتى تكوّن له ذوق يستطيع به أن يفقه ما فى الشعر من جمال.

ومرّ بنا وصف البحترى له فى حياة أبيه بأنه يستولى على حلبة الشعر مما يدل على أن الشعر سال على لسانه وهو بعد فى الثامنة أو التاسعة من حياته.

ولم يكن البحترى وحده أستاذه فى مطالع حياته، فأهم منه أبوه المعتز إذ كان شاعرا بارعا، ولو قدّر له أن تمتد حياته لشغل النقاد بأشعاره على نحو ما شغلهم ابنه، وكان ينفق كثيرا من أوقاته فى اللهو والمجون والصيد، وينظم فى ذلك كله أشعاره ويطلب إلى هذا المغنى أو ذاك أن يتغنى فيما ينظم، وكل ذلك ورثه ابن المعتز عن أبيه. وبذلك كان له فى أوائل حياته أستاذان: أستاذ من بيته هو أبوه الذى كان يدرّبه على نظم الشعر، وأستاذ من غير بيته هو البحترى.

ومن المحقق أن نسيج صياغته لا يرتفع فى متانته وجزالته إلى مرتبة صياغة البحترى، حقّا كثيرا ما يرتفع، ولكنه قد يهبط درجات عن صياغته الجزلة الرصينة، مما جعل كثيرين فى عصره وبعد عصره يحملون عليه، وتصدى لهم أبو الفرج ملوّحا فى وجوههم بقوله: «شعره إن كان فيه رقّة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين فإن فيه أشياء كثيرة تجرى فى أسلوب المجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين وأشياء ظريفة من أشعار الملوك فى جنس ما هم بسبيله ليس عليه أن يتشبّه فيها بفحول الجاهلية، فليس يمكن واصفا لصبوح فى مجلس شكل ظريف بين ندامى وقيان على ميادين من النّور والبنفسج والنّرجس ومنضود من أمثال ذلك. . . أن يعدل عما يشبهه من الكلام السّبط (السهل) الرقيق الذى يفهمه كل من حضر إلى جعد الكلام ووحشيّه وإلى وصف البيد والمهامه والظّبى والظّليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة، ولا إذا عدل عن ذلك وأحسن قيل له مسئ، ولا أن يغمط حقّه كلّه إذا أحسن الكثير وتوسّط فى البعض وقصّر فى اليسير وينسب إلى التقصير فى الجميع لنشر المقابح وطىّ المحاسن. فلو شاء أن يفعل هذا كلّ أحد بمن تقدّم لوجد مساغا (١)». وأبو الفرج بذلك أنصف ابن المعتز، ووضعه فى مكانه الصحيح، فهو فى أكثر شعره محسن، وهو فى بعضه متوسط الإجادة، وفى اليسير


(١) الأغانى ١٠/ ٢٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>