للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منه مقصّر، وأكبر الظن أن هذا اليسير من شعر الارتجال إنما كان فى أثناء سمره أو فى أثناء سماعه للغناء وشربه. على أنه لا بد أن نشير إلى مهارته فى الغناء والموسيقى وأن هذه المهارة جعلته من أصحاب الآذان الدقيقة التى تزن جرس الكلام، ولذلك كنا نحس عنده دائما بأنه لا يهمل الأسماع فى شعره، إذ كان يحاول أن يلذّها بأنغامه وألحانه.

وظاهرة ثانية فى أشعاره هى عنايته فيها بالتشبيهات والاستعارات والجناس والطباق وهى ظاهرة طبيعية، إذ كتب فى هذه الفنون كتابه «البديع» ونوّه بها، غير أنه لم يفرط فى الجناس والطباق إفراطا بعيدا، وقد عاب أبا تمام بذلك فى كتابه، لأنه يخرج فيه على طريقة القدماء. والمحافظون من أمثاله وأمثال البحترى كانوا يوازنون بين البديع المستحدث وصوره عند القدماء، فلم يكونوا يسرفون فيه مثل أبى تمام ومسلم ابن الوليد.

ولعل من الواجب أن نستعرض فنون الشعر عنده، لتتضح لنا شاعريته، وأول ما نقف عنده من تلك الفنون المديح، ومرّ بنا أنه مدح من الخلفاء المعتمد والمعتضد كما مدح عمه الموفق البطل المظفر، ونحس ببهجة حقيقة ومشاعر صادقة فى مديحه لابن عمه المعتضد، أما مديحه فى غيره ففاتر، وكان المعتضد كما أسلفنا بطلا مغوارا واستطاع-كما استطاع أبوه الموفق-أن يخضد شوكة الترك، بل أن يقلم أظفارهم، وكأنما كان يشفى غليل ابن المعتز وضغنه القديم عليهم، إذ هم قتلة أبيه وسافكو دمه، وليس ذلك فحسب هو الذى جعل المعتضد يقرب من نفسه، فقد اتخذه نديما وجليسا وتوالت عطاياه عليه، فكان إذا مدحه انبعث فى مديحه عن عاطفة صادقة حارة، وربما كانت خير مدائحه فيه رائيته التى يستهلّها بقوله (١):

سلمت-أمير المومنين-على الدّهر ... ولا زلت فينا باقيا واسع العمر

حللت الثريّا خير دار ومنزل ... فلا زال معمورا وبورك من قصر

فليس له فيما بنى الناس مشبه ... ولا ما بناه الجنّ فى سالف الدّهر

والثريا مجموعة من الدور والقصور بناها المعتضد، ويقال-كما مر بنا فى غير


(١) الديوان ص ٢١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>