[الإيمان يزيد وينقص]
وهذان الركنان: الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، منهما تترتب حقيقة تفاوت الإيمان وأنه يزيد وينقص، مثلاً لو نظرنا إلى الصلاة، نجد أن بعض الناس أكثر أجراً في صلاته من بعض، فالواحد منا -أحياناً- يصلي الفجر صلاةً خاشعةً ويستيقن ويحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ذلك؛ لأنه استحضر قلبه، فهذه صلاة أداها بما يرضيه ويريده، لكن قد يأتي يوم ثانٍ أو فريضة أخرى، وإذا به ينشغل ويهتم ويوسوس في الصلاة، ولا يدري إلا وقد سلم الإمام، وربما لو سهى الإمام لا ينتبه إلى ذلك.
إذاً: هذا دليل على أن الأعمال تتفاوت، فحركات الجوارح نفس الحركات تقريباً، أنت وراء الإمام في الفريضة ما الذي جعل صلاتك في وقتٍ عالية، وصلاتك الأخرى قليلة جداً؟! فبعض الناس لا يكتب له إلا عُشر الصلاة، وبعضهم لا يكتب له شيء، لكن من الناس من تكتب له كلها، نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، إلى عشرها كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً: هذا التفاوت ما سببه؟ سببه أعمال القلب، وإيمان القلب، فعندما يكون الخشوع واستحضار القلب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، تكون العبادة أكفأ.
وكذلك لا يمكن أن يوجد عمل في القلب حقيقي، وإيمان في القلب حقيقي، إلا ويظهر أثره على الجوارح، تجد أحدهم يقول: أنا موحد لله عز وجل تماماً، لكنه يحلف بغير الله، فلو وحد الله ما حلف بغير الله، فإذا ذهب يدعو غير الله فهذا أعظم، فلو كان التوحيد في قلبك كما تقول لما دعوت إلا الله، وكيف يكون التوحيد متكاملاً في القلب وتدعو غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فإذاً بهذا يعرف الإنسان إيمانه عندما يشعر أن صلاته أحياناً تزداد، وأحياناً تقل، فالإيمان يزيد وينقص، ولذلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣]، لما حول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال بعض الصحابة ما حال صلاتنا التي صليناها إلى الشام، وقال بعضهم: إخواننا الذين ماتوا قبل أن تتحول القبلة ليس لهم شيء حتى لو صلوا؛ فأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣] أي صلاتكم.
فإن الصلاة هي الإيمان، والإيمان هو الصلاة، لأنها جزء منه، فكل عمل من الأعمال يطلق عليه الإيمان، فبر الوالدين من الإيمان، والصيام من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والإحسان إلى الفقراء من الإيمان، فكل هذه الأعمال الصالحة من الإيمان، عمل الجوارح مع عمل القلب جميعاً، فإذا كانت هذه الأعمال تزيد وتنقص، فالإيمان يزيد وينقص.
وكذلك التوحيد يزيد وينقص، فعندما يأتي جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فيقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، فهذا غاية التوحيد، لكن من الذي يحقق مثل هذه الدرجة، إنهم قلة قليلة.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:١٢٤].
وفي الموقف الآخر لما رأى في المنام ما رأى -ورؤيا الأنبياء وحي- لم يأته جبريل، بل أعظم من ذلك، لقد خاطبه الله عز وجل، فقال: يا إبراهيم! اذبح ابنك، فأضجعه إبراهيم وأخذ السكين، حتى أنزل الله تعالى عليه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:١٠٥].
فلما حقق إبراهيم عليه السلام هذ التوحيد، صار إمام الموحدين، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٣]، فنحن الآن ننتسب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى إبراهيم عليه السلام، إمام الموحدين الأول.
فإبراهيم عليه السلام دعا الله تبارك وتعالى أن يبعث إمام الموحدين وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي نشر هذا التوحيد، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:٦٨]، فنحن أولى الناس بإبراهيم، وقال رداً على اليهود والنصارى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:٦٧]، إذاً التوحيد درجة عالية جداً، فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في الغار ومعه الصديق، كما قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠]، كان فؤاد أبي بكر رضي الله عنه يرجف، ويقول: {يا رسول الله! والله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا}، وإذا رأوهم انتهت الجهود والاحتياطات التي بذلت، في لحظة واحدة، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه فقط.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحزن إن الله معنا}، هذا هو التوحيد، لكن هل كل النفوس تطيق ذلك؟ لا، الأدلة على ذلك أن التوحيد درجات تتفاوت، ويزيد وينقص.
وعندما جاءت الأحزاب وأحاطوا بـ المدينة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاصر هو وأصحابه فيها، في تلك اللحظة ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، هذا الزلزال الشديد ظهر فيه الموحد الصادق، الذي يؤمن بالله عز وجل وواثق من نصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسقط من سقط، وما أكثر من يسقط ممن يدعون الإيمان حين يصطدم بلحظة الاختبار وفي لحظة الابتلاء، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣]، فهذه الآية تبين أن هناك اختباراً وابتلاءً، فعندما جاءت الأحزاب، ظهرت حقيقة المنافقين، كما قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:١٣].
وهكذا نحن نريد أن ندعو إلى الله، ونغير منكراً من المنكرات، وأن نذهب إلى إخوانٍ لنا في الله عز وجل في الشارع، هذا يبيع أفلاماً خليعة، وهذا أغاني محرمة، وهذا فاتح المقهى وقت الصلاة، نكلمه بالحسنى، بالمعروف، ونعرفه ونعرف الآخر، فكلنا إخوان ومسلمون بحمد الله، ونعرف بعضنا بعضا، هذا ولد عمي، وهذا رفيقي، وهذا زميل أخي، كلهم في الحي، لا نحاول بسلطة ولا بعسكري، نحن نكلمه بالمحبة والأخوة.
فعلينا أن نخاطب قلوبنا، هل نحن فعلاً عندنا الجرأة وعندنا الإيمان؟ نحن لا تحيط بنا الأحزاب، ولا الأعداء، ولا شيء من ذلك، بل والله إذا نصحت أحداً، فإنه يشكرك ويحترمك، ونحن ما نريد الشكر والاحترام لنا، نحن نريد أن يطاع الله.
لكن أقول: هذا عاجل بشرى المؤمن، ومما يشجع الإنسان أن يقال له: يا أخي! اتقِ الله تعالى، أنت دائماً تأكل من الحرام، يا أخي! اتقِ الله، جزاك الله خيراً، الدنيا فانية والمال الحرام، أو يا أخي! الناس تبيع الفاكهة، وتبيع أدوات كهرباء، وتبيع أشياء فيها فائدة، وأنت تبيع أفلاماً! من أول الفلم عشق وغرام وهيام؟ يا أخي، أنت إنسان عاقل، وأنت كذا، جزاك الله خيراً، وإن شاء الله يتقبل هذا منك، وهذا أقل شيء، فأنت أديت ما عليك نحو أبناء هذه الأمة.
كذلك جارك الذي لا يصلي، متى ضربت عليه الباب؟! وقلت له: يا أخي نريدك أن تصلي، عندما نريد أن نعرف إيماننا، فإننا نقيسه بإيمان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- نعرف أننا ندعي أننا فقط أدعياء، إلا من رحمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الشاهد من هذا كله هو أن الإيمان يزيد وينقص، وأن التوحيد يزيد وينقص، فإذا انطبق توحيد الله عز وجل؛ فإنه يظهر على الأعمال، والجوارح، وفي الدعوة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية والجهاد من أجل هذا الدين، ومن أجل التقرب إلى الله وحده، وبقدر نقص التوحيد ونقصان حقيقته، نجد أن الخلل وقع.
انظروا إلى الرزق الذي كان المشركون يؤمنون به، كان المشركون يؤمنون بأن الله هو الرازق وحده، مع أنه يوجد في هذه الأمة من يدعو غير الله أن يرزقه، وبعض الناس لو قلت له: يا أخي! اتق الله، أو قلت له: يا أخي! إن العمل في هذا المكان حرام، وهذه فتاوى العلماء، وهذا كلام الله ورسوله، لا يجوز أن تعمل في هذا المكان تجده يقول: أين أذهب؟ هذا مصدر رزقي.
ولو أتيته وقلت له: يا أخي! اتق الله عز وجل وانه عن المنكر، أنت -مثلاً- تعمل في هذا المحل وفيه المنكرات، ادع صاحب المحل عندما يأتي، وقل له: هذا منكر، يقول: لو كلمته يقطع رزقي، يا سبحان الله! إذاً: ما كانت الجاهلية تُقُّر به وهو أن الله هو الرازق، نجعله نحن للمخلوق دون أن نشعر، فنقول: المخلوق هو الرازق، ولو أنك لو تركت العمل في هذا المكان المحرم، أو عند هذا الإنسان الذي لا تستطيع أن تقول له: اتقِ الله! لربما يعوضك الله عز وجل خيراً منه، ولو لم يكن لك أي عوض، إلا أنك وحدت الله حقيقة التوحيد، وآمنت بالله حقيقة الإيمان لكفى.
والخلاصة من ذلك: أن الإيمان يزيد وينقص، وأن التوحيد يزيد وينقص، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لتحقيق التوحيد، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، إنه سميع مجيب، والله أعلم.