[لا كبيرة مع خوف واستغفار ولا صغيرة مع إصرار]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فكما تعلمون وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، ونفعنا بما نسمع وما نقول أننا قد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن حديث الدواوين الثلاثة، وبينا أنه مع ضعف الحديث فإن معناه صحيح، وكان الموضوع هو موضوع الديوان الثاني الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ما يتعلق بحقوق العباد ومظالمهم، وذكرنا ما فتح الله تعالى به ويسر من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن المظالم وحقوق العباد، ولعل في ذلك كفاية إن شاء الله تعالى.
وننتقل إلى ما بعده في قول الشارح رحمه الله: (وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر)، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يُخَلَّدون؛ ولكن ثمَّ أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره، وأيضاً فإنه قد يُعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يُعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة).
هذا موضوع عظيم، وخير الموضوعات وأنفع العلوم ما كان علاجاً للقلوب وأدوائها وأسقامها، وأعظم ذلك -أي أعظم الأدواء والبلايا والأسقام- هو الشرك، كما تحدثنا عنه فيما سبق، وهنا نأتي إلى قاعدة عظيمة فيما دون الشرك، وهي الذنوب التي لابد أن يصيبها العبد وأن يلم بها، هذه الذنوب أراد الشارح رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الديوان الأول الذي لا يغفره الله تعالى أبداً، ثم الديوان الثاني الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً أراد أن يبين الديوان الثالث، وهو ديوان ظلم العبد لنفسه في حق الله تعالى فيما دون الشرك، وما دون الشرك ينقسم إلى كبائر وإلى صغائر، وأحال موضع الفرق بين الكبيرة والصغيرة إلى ما بعد، حيث سيأتي التفصيل بإذن الله، وأظن أن القضية هي قضية اختلاف الطبعات، فأنا عندي (ص٥٢٤) مثلاً، وبعض الإخوان تختلف عندهم الطبعات، وهي فقرة طويلة جداً، أولها: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يُخَلَّدون) إلخ، وقد شَرَحَها شرحاً طويلاً، ومن أحب منكم، أو تعجل المعرفة في الفرق بين الكبائر والصغائر قبل أن نشرحه هنا -وهذا حسن جداً أن تقرءوا قبل أن نشرح- فليراجِع الجواب الكافي، ففيه تفصيل لذلك، وسنعرض له إن شاء الله تعالى ولغيره عندما نصل إلى هذا الموضع؛ لكن الشارح هنا بعد أن أشار إلى ذلك ذكر هذا الاستدراك العظيم الذي هو قاعدة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب تبارك وتعالى.
قال: (ولكن ثمَّ أمر ينبغي التفطن له) هنا قضية مهمة ينبغي أن يتفطن لها عباد الله، ولا يجوز أن يتغافل عنها من يسر الله تبارك وتعالى له أن يعرفها، قاعدة عظيمة من القواعد التي استخرجها أمثال هذا العالم الفاضل ومن نقل عنهم -رحمهم الله أجمعين- استخرجوها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سير العبَّاد من السلف الصالح، الذين قاموا لله تبارك وتعالى بواجب العبودية على نحو يَقتدي به من بعدهم.
قال الشارح: (وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر).
قال: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل).
أي: أن ما يقوم بالقلب قدر زائد على مجرد الفعل.
ثم قال: (والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره).
ثم شرع في موضوع التوبة، وأسباب التوبة، وأسباب سقوط العقوبة التي أولها التوبة.
فالقاعدة إذاً: أن الذنوب إما كبائر وإما صغائر؛ لكن الكبيرة إذا فَعَلها صاحبها لا ريب أن صورة العمل الظاهر أن هذا مرتكب لكبيرة؛ لكن يقول الشارح: (إن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر)، وبالعكس: (قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر).
إذاً: عندنا أمران: صورة الفعل، أو صورة العمل في مظهره، وعندنا حقيقته وتعلق القلب به، أو حال القلب عند عمل هذا الذنب.
وهذا مفتاح لباب عظيم من أبواب التربية الإيمانية القلبية.