[أم البنين بنت عبد العزيز وقصتها مع عزة المعشوقة]
ثم ذكر توبات كثيرة، كما قلت لكم: الكتاب لو خلا مما فيه مما يستوجب التعليق لكان نفعه عظيماً جداً.
ذكر أيضاً توبة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، هذه لها قصة مشهورة في كتب الأدب، وإن كانوا يذكرونها في كتب الأدب على أنها طرفة، أو مُلحة من المُلح والنوادر؛ لكنها عند أهل الإيمان واليقين تدل على ما يذكُر كما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.
يروي أيضاً في سنده قال: دخلت عَزَّة صاحبة كُثَيِّر كُثَيِّر عَزَّة، انظروا النسبة، نعوذ بالله! بعض الناس ينسب إلى الخير، وهذا الرجل نُسب إلى العشق، وإلى المرأة التي عشقها، وكان رجلاً باطنياً خبيثاً، كُثَيِّر هذا كان رجلاً خبيث العقيدة، على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في أعلى جبل رضوى، وأن عنده نمور تحرسه، وعنده عسل، وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، انظروا! هذا الكلام كان في القرن الأول، فما بالكم عندما ابتدعت الروافض فيما بعد أن الإمام في سرداب سامراء إلى آخر ما ابتدعوه، فالكلام في هذا قديم، وهذه البدعة قديمة.
الشاهد: عَزَّة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز، هذا البيت بيت الملك والأبهة، الدنيا كلها كانت تحت حكمهم كما بينا في مرة مضت، الدنيا كلها تحت حكم بني أمية، فكانت تسمع من الشعراء، وتسمع كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فإذا قيل لها: فلان مطرب أو عنده نغمة، قالت: جيئوا به، ننظر ونسمع ما عنده، إلى آخره.
فلما دخلت عَزَّة سألتها أم البنين: وهي عارفة بأخبارها، وعارفة بالحكايات التي يتناقلها الناس يتناقلونها، يعني: كما قالوا عن مجنون ليلى، وكما قالوا عن صاحب عفراء، وفلان وفلان ممن جاءت أسماؤهم في كتب العشق عند العرب، وفي قصص العشق، فيُنسب الشاعر إلى صاحبته، كما أن كُثَيِّر نُسب إلى عَزَّة.
قالت لها أم البنين: ما معنى قول كُثَيِّر:
قضى كل ذي دَين فوفى غريمَه وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمها
انظر السؤال! وهذا يا إخوان! فضول العلم، وفضول الكلام، وفضول النظر، وجاء في الأخبار: أن رجلاً دخل على أحد السلف فقال له: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط.
فقال له: يا رجل! والله إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف.
وكانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام.
هناك أناس ابتلاهم الله بالفضول، وأناس بخلاف ذلك، فيقول: هذا بيتي وأنا فيه منذ عشرين سنة فما نظرت إلى السقف، الناس في هم أعظم، قلوبهم منشغلة بالله وبالآخرة وبالعمل الصالح، فهم في شغل عن الفضول؛ لكن الناس الذين لا همّ لهم لا يستشعرون خوف الله ولقاء الله، فيسأل سؤالاً ولا يهمه الجواب هكذا على هذا السؤال فالقضية أنه يسأل من باب الفضول فقط.
فجاءها الشيطان بهذا الفضول.
قالت: يا عَزَّة! ما معنى قول كُثَيِّر:
قضى كل ذي دَين فوفَّى غريمَه وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمها
أي: ما هو هذا الغُرم؟ وما هو الدَّين؟ قالت لها: ما هذا الدَّين الذي يذكره؟ قالت: أعفيني.
قالت: لابد أن تخبريني، ما هذا الدَّين.
قالت عَزَّة: كنت وعدتُه قُبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه، ولم أفِ له أي: ما أعطيته.
هؤلاء عشاق العرب الفجار الذين كان هذا حالهم، لذلك يسمونه الهوى العذري، أو الحب العذري؛ لأن الحب عندهم كان على نوعين، أو العشق على نوعين: نوع إباحي.
ونوع عذري.
الهوى العذري في زعمهم: هو فقط الحديث والمزاح والكلام دون أي شيء آخر.
وهكذا كان كُثَيِّر وعَزَّة وطائفة من العشاق.
والنوع الآخر هو الإباحي وهو الذي يؤدي -عياذاً بالله- إلى ارتكاب الفاحشة.
يعني: هؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهي منعها دينُها أو حياؤها أو أصالتها أو عربيتها أو قبليتها أي شيء، المهم منعها مانع أن تعطيه قُبلة، رغم أنه يواعدها ويخلو بها ويتحدثان، ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه.
فقالت هذا الشيء، كما قال بعضهم: كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله تعالى عنه.
هذا الكلام قالوه في القرن الأول، فكيف الآن! الآن ما عاد فينا -نعوذ بالله- إلا الفجور والفساد، حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً، كان هناك نوع من الحياء العام في الأمة، يربط الأمة نوع من (لماذا نفعل؟).
فاستعظمَتْ مع هذا الشعر والأخبار أن تعطيه هذا، بينما بعض الناس -عياذاً بالله- لا يرى هذا إلا عادياً جداً، الروايات والقصص والتمثيليات يأتي بها كل ليلة، فأصبحت لا تثير شعوراً إلا عند أهل الإيمان والتقوى -جعلني الله وإياكم منهم.
فالشيطان جاء لـ أم البنين، رغم أن الأمر قد انتهى، وكُثَيِّر في مكان وعَزَّة في مكان، وانتهت القضية، وبَعُد العهد؛ لكن الشيطان أراد أن يوقعها.
فقالت أم البنين: أنجزيها منه وعليَّ إثمها أي: أعطيه وعليَّ إثمها، فما هي إلا قُبلة، ليست فاحشة، كما يقول بعض الناس: بسيطة.
كيف تكون بسيطة، حين يختلي الرجل بالمرأة وقد تسافر معه الأيام والأسابيع، بل بعضهم والله يخرج بها خارج المملكة، ثم يقولون: القضية بسيطة.
كيف بسيطة؟ قالت: أنجزيها وعليَّ إثمها هذا الشيطان أوبقها فقالت هذه الكلمة.
ثم راجعت نفسها من وقتها ومن مكانها، واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة وتعلمون ما في العتق من الثواب، وقد وردت أحاديث تتناول ثواب العتق منها: (من أعتق رقبة أعتق الله رقبته)، نعم.
كل عضو منه بعضو منها، فأعتقت أربعين رقبة من أجل هذه الكلمة.
وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها وتقول: يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها.
الله أكبر! انظر كيف! {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١].
وتعبدت عبادة ذُكرت بها في عصرها من شدة اجتهادها، فتحولت أم البنين من امرأة تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة.
قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله أي: كانت كل جمعة تجهِّز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل تكفيراً وتوبة، وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها ويتحدثن انتهت أيام الشواعر والمطربات والطبالات والكلام الفارغ.
فالآن من جلساؤها العابدات، الزاهدات، المتقيات.
تقول أم البنين: أحب حديثكن، فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد.
وكانت تقول: البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة والله هذا هو البخيل، الناس لو رأوا واحداً عنده مال، ولبس ثوباً ليس مناسباً، وأكل أكلاً جافاً قالوا: بخيل، تبخل على نفسك، أما تكرمها.
فهذه معايير البشر أهل الظاهر الذين يرون ظاهر الأمور؛ لكن حقيقة الأمر: البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة، فما عمل لها ولا اجتهد لها، وماذا تعادل الدنيا هذه كلها بالنسبة إليها.
وكانت تقول: جُعل لكل إنسان نُهمة في شيء فكل إنسان له نُهمة، بعضهم نهم في الطعام، بعضهم نهم في النكاح، بعضهم نهم في سماع الشعر مثلاً، له هواية، وذوق، ومزاج.
قالت: وجُعلت نُهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ سبحان الله! جعل الله نُهمتها في العطاء والبذل والإحسان، هذا خير عظيم فتح عليها.
قال: وهل يُنال الخير إلا بالاصطناع؟ وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله.
إذاً: يا إخوان! واضح، فهذه معصية وقعت، وذنب وقع؛ ولكن أعقب ذلك هذه التوبة وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لولا أنها لم تقع في تلك الكلمة.
ولقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثة عشر مشهداً من مشاهد العبد في الذنب؛ وعند ذكرها إن شاء الله سنعلق على بعض المشاهد، وهي التي تشمل مشهد الخوف، مشهد الإجلال، ومشهد الحياء، يعني: الذنب هو ذنب إذا وقعت فيه، لا يذهب بك الشيطان إلى القنوط واليأس من رحمة الله، في هذه الحالة قف فأنت في مشاهد عظيمة مع الله سبحانه وتعالى، في لحظة الذنب والخطأ هنالك موقف التوبة والضراعة والإنابة والذل والانكسار والعبودية، مواقف عظيمة جداً، ولهذا كما ذكر من كلام يحيى بن معاذ وغيره من العلماء الذين فضلوا حال التائب الذليل المنكسر على حال الطائع، لأن الطائع قد يُدِل ويُعجب ويغتر بعمله، أما ذلك المنكسر الذليل المذنب الذي جاء يطرق الباب مسكين، أين ملجؤه؟ أين ملاذه؟ لا يُتهم؛ لأنه جاء طالباً راجياً، أما ذلك فربما أصابه عجب، وتحدثنا عن هذا فيما مضى.