حكم المتأول المكفِّر والمبدِّع لغيره
يقول: 'وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك' فإذا جاء شخص مسلم فتأول وكفّر مسلماً، أو قاتل مسلماً متأولاً، فإنه لا يكفر بذلك، فهذا عدل أهل السنة وهم ينظرون في هذا الجانب، فحتى لو أخطأ فاعتدى أو اتهم أو كفّر فلا يقابل بالظلم ولا أو البغي، وإنما يعامل أيضاً بالعدل وبالحق.
الدليل؟ ويستدل على ذلك بدليلين صحيحين ثابتين، والدليل الأول: قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حاطب بن أبي بلتعة حينما قال: {يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق} وهذه قصة معلومة مشهورة في الصحيحين وفي غيرهما.
فحكم عمر رضي الله تعالى عنه على حاطب بأنه منافق، ورأى استحلال دمه.
والقضية واضحة ليس فيها اجتهاد ولا تأويل؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطلع على السر -وهو غزو قريش- إلا قلة من الصحابة ومنهم حاطب، فكيف يجرؤ أن يكتب كتابه إلى الكفار، ويخبرهم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادمٌ إليهم يغزوهم؟ فليست هي خيانة لواحد أو اثنين، ولهذا يقول عمر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه} وقال في آخر الحديث: {فقد خان الله ورسوله والمؤمنين} أي: فكيف نتركه يعيش وقد خان الله وسوله والمؤمنين، وصار جاسوساً للكفار الذين يعبدون الأصنام، ويحاربون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقد يظهر أن القضية واضحة -وهذه هي المشكلة عند كثير من الناس- ولذلك فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد عمر بالدليل الواضح، وهو أن حاطباً شهد بدراً، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
الدليل الثاني: حديث الإفك الطويل حيث جمع النبي الناس وخطب فيهم: {من يعذرني في رجل آذاني في أهل بيتي، ولا أعلم عن أهل بيتي إلا خيراً -يريد أن يرى رأي الأنصار والمهاجرين في هؤلاء الذين افتروا على أم المؤمنين هذا الإفك العظيم والفرية العظيمة- فقام إليه سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وقال: يا رسول الله! إن كان منا معشر الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج فأمرني بأمرك أفعل ما تشاء}.
فقام سيد الخزرج سعد بن عبادة وكان مؤمناً، ولكن أخذته الحمية، فهو سيد قبيلته، فقال لـ سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه {كذبت، والله لا تفعل ذلك ولا أدعك تفعل} واحتدم النقاش واختصموا، فقال له أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه وكان ابن عم سعد بن معاذ: {والله ليفعلن، ولكنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فاختلف القوم حتى هموا أن يقتتلوا} أي: كاد أن يقع القتال بين الأوس والخزرج بسبب هذا الموقف.
والشاهد: أن عمر قال لـ حاطب: إنه منافق قد خان الله ورسوله والمؤمنين, وأن أُسيداً قال لـ سعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، فلم يرتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوليهما حكماً؛ لأن كلاً منهما أصل كلامه وموقفه هو الغيرة على دين الله، والانتصار للحق، ولم يقصد مجرد الهوى، أو الطعن أو التكفير -مع أن النفاق هنا هو النفاق الأكبر- ولذلك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: {فقد باء بها أحدهما} ولم يقل أحد: هذا قد كفرني يا رسول الله! وإنما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كان يسمع قدروا الموقف، وعلموا الدافع.
فالمقصود من هذا أنه حتى لو أخطأ المخطئ فكفّر أو بدّع أو ضلل وكان اجتهاداً منه، وغرضه الحق والدفاع عن الحق وإقامة الدين، فإنه يُخطئ في اجتهاده، ولا يقال: هذا صار من الخوارج ممن يكفر بالذنب، بل يُرد إلى الحق، وهذا هو الموقف العدل.
قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'فهؤلاء البدريون فيهم من قال للآخر منهم إنك منافق' فـ عمر وحاطب بدويان: 'ولم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة'.
يقول: 'وكذلك ثبت في الصحيحين أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: {قتل رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لما أخبره، وقال: يا أسامة بن زيد! أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟! وأخذ يكررها، حتى قال أسامة بن زيد: حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يومئذٍ} ومع هذا لم يوجب عليه قوداً ولا ديةً ولا كفارة'.
ويمكن أن يأتي شخص ويقول: الآية هكذا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:١٧٨] إذاً نقتل أسامة بن زيد بهذا الرجل، وليس الأمر كذلك لأن أسامة بن زيد فعله متأولاً مجتهداً، فقال: {إنما قالها خوفاً من القتل} فهو يتمنع بها من السيف، وهذا اجتهاده، ولو قال: هذا رجل مسلم معصوم الدم وبريء ولكن أنا سأقتله؛ فهنا يقع القود وتكون التهمة؛ فبالنسبة للميت يقال لمن قتله: {أشققت عن قلبه؟} كيف عرفت أنه إنما قالها تعوذاً أو خوفاً، فلو جاء أولياء المقتول، وقالوا: يا رسول الله! إنه قتل أبانا بعدما شهد أن لا إله إلا الله، فلن يقول: نعم هذا قتله إذن نقتله به، أو يدفع الدية، لأنه لا يعني خطؤه أن يقاد به، أو يدفع الدية، لأنه فعله مجتهداً متأولاً.
يقول رحمه الله: 'فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:٩]-إلى آخر هذه الآية- فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض، إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين' وهذه هي الأخلاق العالية، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم والسلف ليسوا هم أفضل الأمة فقط في حالة الاتفاق، بل أفضل الأمة في المواقف عند الاختلاف، فيقاتل بعضهم بعضاً لاجتهاده أنه ينصر الدين.
ولكن لم يقطعوا الموالاة في الدين فيما بينهم، يقول: 'ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض' لا كما قال الخبيث واصل وأمثاله: لو شهدوا على باقة بقل أو على درهم ما قبلت شهادتهم؛ يعني أهل الجمل أو صفين.
قال رحمه الله: 'ويأخذ بعضهم العلم عن بعض' فعندما وقعت الفتنة لم يقل علي رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقوم -مثلاً- أهل الجمل أو أهل صفين فيقولون: لا تأخذوا عنه الدين، بل كانوا: يأخذون العلم بعضهم عن بعض، وبعد أن هدأت الفتنة رجعت الأمور إلى مجاريها، وكانوا يأخذون العلم عن الصحابة، وعن السلف أجمعين من غير أن يقولوا: هذا كان من أصحاب كذا، وهذا كان من أصحاب كذا، فهذه النفوس العالية التي ارتفعت وأصبحت أهلاً لأن تحمل أمانة هذا الدين، فكان يشهد بعضهم لبعض، وتقبل شهادتهم لبعض أو على بعض.
قال رحمه الله: 'ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم بعضاً' حتى وإن كان هذا في صف، وهذا في صف، فالمعاملة واحدة على الاسلام، رغم وقوع أشد أنواع الاختلاف، وهو الاقتتال بالسيف.
ثم يستدرك -رحمه الله- ويأتي بأدلة تبين أن الفرقة واقعة، وأن الخلاف واقع، وإنما الواجب علينا أن نتقي الله إذا وقع الخلاف، ونحسن التعامل قال: 'وقد ثبت في الصحيح: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل ربه، ألا يهلك أمته بسنةٍ عامة فأعطاه ذلك، وسأله ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك} وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً، وثبت في الصحيحين: {لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:٦٥] قال: هاتان أهون' أو قال: هذه أيسر، وهذه أهون، وهذا الحديث مشهور.
والمقصود أن الفرقة حق وواقع، وهي عذاب لم يرفع عن هذه الأمة، بل ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صحيح آخر: {هذه الأمة عذابها الفرقة وفتنتها المال} فعذاب هذه الأمة الفرقة، وأكبر ما عذبت به في تاريخها الطويل هو الفرقة وليس الصليبيين أو التتار، أو اليهود، أو النصارى، ونسأل الله أن يجمعها على الحق إنه سميع مجيب.