قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة التي هي الفرض، والتي كانت بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن وقتها باقٍ فهو مخاطب بها' لأن من بلغه الخطاب وجب عليه الامتثال، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بتلك الصلاة لهذا السبب، لكن ابتداءً من الصلاة التي قبلها وانتهاءً بأول صلاة صلاها لم يأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعادة شيء من ذلك، فلذلك يقول: مادام أن الوقت باق، وتلك الصلاة التي صلاها لا تبرأ بها الذمة فلا تزال في ذمته ولو لم يبق من الوقت إلا ما يؤديها أو ركعةً منها، قال: 'ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، أو أفاق مجنون والوقت باق لزمتهم الصلاة ولكن تكون أداءً' أراد شَيْخ الإِسْلامِ أن نتخذ هؤلاء نموذجاً ونقيس عليهم الذين لم يبلغهم خطاب التكليف، فالصبي قبل البلوغ لا تجب عليه الصلاة وإن كان يندب ويحث عليها ويعلم، ولكن الوجوب المتعين إنما يكون بعد البلوغ، فلو بلغ الصبي في وقت فريضة من الفرائض، أو أسلم كافر في وقت فريضة من الفرائض، أو طهرت الحائض في وقت إحدى الفرائض، أو أفاق مجنون ومنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالعافية في وقت فريضة من الفرائض، ولا يزال في الوقت متسع لأدائها فإن هؤلاء يصلونها أداءً لا قضاءً، وهذا كما في حديث النائم:{من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها فإنه وقتها} فكذلك هنا وقتها بالنسبة له هو متى ما ظهرت عليه علامة البلوغ، أو أسلم إن كان كافراً، أو طهرت إن كانت حائضاً، أو أفاق إن كان مجنوناً، قال: ' وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم، وليس في ذمتهم أن يؤدوا تلك الفريضة التي ذهب وقتها، والتكليف لم يجب عليهم، فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجود الطمأنينة في أثناء الصلاة وجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ ولم تجب عليه قبل ذلك.
' إن المسيئون لصلاتهم كثير، ولو أن كل واحد منا تعهد بأن يقوم في مسجده أو عمله أو مدرسته لتعليم من لا يستطيع كيفية صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لوجد العجب العجاب، فإن الملايين اليوم من المسلمين يصلون صلاة قد تكون صلاة المسيء صلاته في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر طمأنينة، أو أفضل منها، فهؤلاء نعلمهم الطمأنينة في الأركان كلها، وتجب عليهم الطمأنينة وهي ركن من أركان الصلاة، لكن هذه الركنية تكون في حقهم منذ أن نعلمهم، ولا نأمرهم بأن يعيدوا ما قبل ذلك.
فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: 'فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها من الصلوات التي قد صلاها ولم يطمئن فيها، وإلا لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما الله تعالى به عليم، ولكن الله تبارك وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، وبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحنيفية السمحة -ولله الحمد، قال:- وكذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن صلى خلف الصف منفرداً أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة لأن الصلاة تترتب على الوضوء، وقوله أولاً للمسيء صلاته {صل فإنك لم تصل} تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة؛ فلهذا أمره بالإعادة ابتداء، ثم علمه إياها لما قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا -قال:- فهذه نصوصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في محذورات الصلاة والصيام والحج في من ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد فذلك أنه لم يأتِ بواجب مع بقاء الوقت، فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبقاء وقت الوجوب، وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة؛ فلأنه كان ناسياً فلم يفعل الواجب، فكان كمن نسي الصلاة وكان الوقت باقياً -وهنا نلاحظ الفقه، قال:- فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده، أعني أنه رأى في رِجل رَجل لمعة لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود وقال أحمد بن حنبل حديث جيد ' فهذا الرجل الذي بقي في رِجله مثل الدرهم يعرف أن الوضوء واجب، وأنه شرط لا بد منه للصلاة، ويعلم أن الوضوء لابد أن يكن سابغاً، فتوضأ ونسي ذلك المقدار، فلما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يعيد الوضوء، وأن يصلي بوضوءٍ كاملٍ، إذاً الفرض أن الوقت كان باقياً، وهذه القضية قضية شخصية تتعلق بهذا الرجل فلا يؤخذ منها قاعدة، كما أخذ بعض الفقهاء، فيقولون: كل من ترك واجباً فإن عليه الإعادة؛ فهذه حالة غير حالة الذي لم يبلغه الخطاب، فلا يقاس عليه من كان يعلم الحكم لكن لم يلتزم به، فإن هذا يعتبر تاركاً عن عمد وعن إصرار، فلا يقاس عليه.
فإذاً: هي حالة معينة لمثل هذا الرجل، فلو أنك رأيت أحداً ترك شيئاً من أعضاء الوضوء، فأرشدته إليه، أو ترك واجباً من واجبات الصلاة، أو فاته ركن من أركانها، فنبهته إلى ذلك فالواجب عليه أن يأتي به، ويستمر كهذه القضية، لكن لا يقاس عليها الذي لم يبلغه شيء من قبل لأنه لا يزال جاهلاً بخطاب التكليف، قال: 'وأما قوله: {ويل للأعقاب من النار} ونحوه فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء وليس في ذلك أمر بإعادة شيء' كما أن قوله ليس فيه ما فهمه بعض الفقهاء: أنه يجب على هذا الرجل أن يعيد كل صلواته التي صلاها من قبل، ولم يكن يسبغ الوضوء، وإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، هذه الحالة الأولى وهي حالة الجاهل الذي لم يبلغه الخطاب.