للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منزلة اليقين وتجليها في الخليل إبراهيم عليه السلام]

واليقين بهذه المثابة وبهذا الفهم منزلة يحبها الله تبارك وتعالى، ويريد من عباده أن يصلوها، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:٧٥] فإبراهيم عليه السلام كان مؤمناً بدليل أنه قال في الآيات قبلها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٧٤]، فهذه الآية في الدرجة التي قبل اليقين، فهو مؤمن، وقد حكم على أبيه وعلى قومه بالضلال؛ لكونهم يعبدون غير الله تبارك وتعالى، لكن الله أراد أن يزيده إيماناً بهذا، وأن يجعله من الموقنين.

وهي درجة عليا ومرتبه عظمى، فجعل الله سبحانه وسيلة ذلك أن يريه ملكوت السماوات والأرض، فبعد أن أيقن واستيقن به ورآه وتأمله، جزم جزماً قاطعاً أن قومه على ضلالة وتبرأ منهم، ورفع الله تبارك وتعالى حجته عليهم، ودحض شبهاتهم، وأيقن أن الأمن والاهتداء لا يكون إلا للمؤمنين، ولا حظَّ فيهما لأحد من المشركين.

وهذا يشابه أيضاً قول الخليل عليه السلام عندما طلب من الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠] فهي أيضاً زيادة ودرجة في اليقين والاطمئنان، وهذه هي حقيقة اليقين، وإذا تأملنا أثر ذلك نجد أن اليقين الذي حصل له عليه السلام أثمر لديه يقيناً في امتثال أمر الله تبارك وتعالى، يقيناً لا يكاد يوجد عند أحد، إلا من وفقه الله تبارك وتعالى لمثل ذلك من رسله وأوليائه المصطفين الأخيار.

فما هو هذا اليقين الذي كان عند الخليل؟ وما الأمر الذي أُمر به الخليل وهو بهذه الحالة -قليل من الناس من يستجيب لهذا الأمر إذا أمر به-؟ أمر بذبح ابنه، بل ولم يأمره جبريل بقوله: إن الله يبلغك أن تذبح ابنك، ولكن جاء أمره: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:١٠٢] مجرد رؤيا، فلم يقل لعلها من الشيطان أو كذا، أو أنام الليلة فإن تكررت فعلت، ولكن اليقين جعله يمتثل، وجعل ابنه كذلك يمتثل {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:١٠٢] فقد حصل اليقين عند الأب، وكذلك حصل اليقين عند الابن، فجعله الله تبارك وتعالى من الموقنين.

وهذه هي الدرجة التي يريدها الله تبارك وتعالى ويحب أن يكون أنبياؤه وأولياؤه عليها.