للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهل الذمة في عهد العمرين]

قال بعد ذلك: وقال عبد الله بن أحمد بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [[قلت لـ عمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله! أما سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:٥١] ألا اتخذت حنيفاً -أي: مسلماً- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله]].

وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: [[إن المال قد كثر، وليس يحصيه إلا هم -أي: أن الجبايات والخراج والواردات كثرت وهم عندهم حذق وفهم في أعمال المحاسبة- فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليه: لا تدخلوهم في دَيْنِكُم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولاتأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال أو فإنما هي حلية الرجال]].

هو بهذا يحث هذه الأمة أن تتعلم الحساب.

وكتب إلى عماله: [[أما بعد: فإنه من كان قِبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره، ولا يؤازره، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده]] أي: لم يرضه.

وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان [[أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن في عملي كاتباً نصرانياً، لا يتم أمر الخراج إلا بهذا النصراني فكرهت أن أقلده دون أمرك -أي: أنه يريد استثناءً لهذا الكاتب- فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأت كتابك في أمر النصراني، فأما بعد، فإن النصراني قد مات! والسلام]]، أي افترض أنه قد مات فهل تتعطل الأمة؟ فإذاً لا بد أن تتخذ غيره؛ فمعنى كلامه أنه لا توجد ضرورة لهذا الكاتب.

وكان لـ عمر رضي الله عنه عبد نصراني، فقال له: ' أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم، فأبى فأعتقه وقال: اذهب حيث شئت '.

وكتب إلى أبي هريرة: [[أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وعُد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشرهم، وأبعد أهل الشر، وأنكر أفعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم؛ غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم]].

قال ابن القيم رحمه الله: 'ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كـ عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر ' ونحن نذكر بعض ماجرى.

قال: 'فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق أما بعد: فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: ٢٨]، فجعلهم الله حزب الشيطان {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:١٠٤،١٠٣]، واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق، وبسطه يد الظلم.

وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً، أتاهم أهل الشرك، فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم، لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدة، وقد قضاها الله تعالى؛ فلا أعلمن أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم؛ فأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار.

وأمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف -جمع إكاف- وليكتب كل منكم بما فعله من عمله'.

فهكذا كانت كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إلى جميع ولاته وكتب مثل ذلك إلى حيان عامله على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه ' أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة -أي لو استمرينا على كلامك هذا أسلم أهل الذمة- وبطل ما يؤخذ منهم فتقل الموارد، فأرسل إليه رسولاً، وقال له: اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطاً أدباً على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام، فضع عنه الجزية، فوددت لو أسلموا كلهم؛ فإن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً لا جابياً '.

وأمر أن تهدم بيع النصارى المستجدة، فيقال: إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم، وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، أي رجعوا إلى أصولهم ملوك الروم وقالوا لهم: عمر فعل ذلك بنا، فكتب إليه: أما بعد ' يا عمر! فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك؛ لتجري أمورهم على ما وجدتها عليه، وتبقي كنائسهم، وتمكنهم من عمارة ما خرب منها؛ فإنهم زعموا أنَّ من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه؛ فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سنتهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت'.

فهذا يدل على أن وساطة ملك الروم وشفاعته كانت مهذبة؛ لأنه لا يريد أن يواجه عمر رضي الله عنه لأنه يعرف قوته وصلابته.

فكتب إليه عمر: [[أما بعد فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:٧٩،٧٨]]].

فما أراد أن يطعن في حكمهم؛ لأن هذا عدو للإسلام والمسلمين، فلم يقل: إن الذين كانوا قبلي ليس فيهم خير، وأتى بنبيين من أنبياء بني إسرائيل، يؤمن النصارى بنبوتهما وجعل الحكم وهو معلوم عندهم في التوراة ومعلوم عندنا في القرآن أن كلاً منهم قد اجتهد، ولكن مَن من المجتهدين المصيب؟ فكأنه يقول: أنا الذي فهمت الحق وأصبت وأما الذين قبلي فهم مخطئون ولكنهم معذورون.

وكتب إلى بعض عماله: ' أما بعد، فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٧] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -أي ذلك الكاتب- إلى الإسلام؛ فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه '.