[هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله]
انظروا هذا التكامل لو ارتقت آفاقنا وأذهاننا إليه، كيف يكون حال الدعوة إلى الله؟! لم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفتياً عالماً، يفتي الناس في أمور الدعوة، ثم يذهب إلى منزله، والناس يفهمون الفتوى ويطبقونها ويتصرفون فيها كما شاءوا، لم يكن هذا من هدي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط، ولم يكن كذلك قائداً سياسياً، يدبر الخطط، ويدير الأمور، ولم يكن كذلك قائداً حربياً يرسم الخطط، ثم يأمر الجيش بأن يطبقها، ثم ينتهي الأمر.
إنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً إلى الله في كل حال من أحواله، أو يذكر الله، حتى وهو يقوم الليل كان حاله كله دعوة، فقد كان يُعلِّم أصحابه الدعوة إلى الله، وُيعلِّمهم كيف يتزودون في الدعوة إلى الله عز وجل.
ولهذا لا نحتاج إلى أن نقول: كيف ندعو؟! ومن هذا نفهم قضية أساسية في فقه الدعوة، وهي أن الدعوة إلى الله، يجب أن تشغل كل وقت الإنسان الداعية إلى الله عز وجل، وإن الدعوة إلى الله تحتاج إلى أن تفرغ لها كل طاقتك، ووقتك، وجهدك، إن أعطينا الدعوة فضول أوقاتنا فلن تقوم دعوة، ولن تنجح، ولا نسمى دعاة، ولا نستطيع أن نصف أنفسنا بأننا دعاة.
ولا يعني ذلك أن يتخلى الإنسان عن عمله أياً كان! انظروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أصحابه الكرام، لم يتخلوا عن أعمالهم، بمعنى الانقطاع الكامل عن الدنيا والالتحاق بأهل الصفة، ما فعلوا ذلك، وإنما كان التاجر في تجارته هو داعيةٌ إلى الله، والمحارب في جيشه هو داعية إلى الله، والطالب في طلب العلم كذلك، وكل واحد منهم كان يقوم بحق الزوجة وبحق الأبناء وبما فتح الله عليه من أعمال دنيوية، ومن خلال ذلك هو متبع لطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو داعية إلى الله.
ومن أولى منهم بذلك؟ لا أحد، ومع ذلك كان هذا طريقهم، وكانت الدعوة إلى الله هي روحهم وحياتهم وهدفهم كله، ليس هناك من هدفٍ آخر لديهم، بل عندما قال بعضهم: إن الله قد أظهر دينه، وأعز نبيه، فلو أننا ذهبنا إلى أموالنا، وإلى ضياعنا، أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥] كما فسرها أبو أيوب رضي الله عنه، فكان الانصراف عن الجهاد والدعوة، والاشتغال بالزرع والضياع، كان ذلك هو الإلقاء إلى التهلكة.
لكن المطلوب أن نظل كما كنا ندعو إلى الله، ومع ذلك نتزود لدنيانا، ونقوم بحق أنفسنا، وحق أهلينا، ولكن من خلال دعوتنا إلى الله عز وجل.
ولهذا لما انفصلت وسائل الدعوة، ولما أصبح الدعاة إلى الله إما عالماً يفتي ويعلم، ولكنه لا يربي، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يعايش ويعاني واقع الدعوة عند العامة والخاصة، حصل خلل كبير، وإنه لأمر مؤسف، مع ما فيه من خير وثمرة مرتجاة للدعوة، وكذلك تحول بعض الدعاة إلى طاقات نشطة تعمل ليل نهار في الدعوة، ولكن على غير علم، وعلى غير بصيرة، فكانت النتيجة ليست بالثمرة الصحيحة، فهي إن سلمت من الابتداع، لم تسلم من الخلل في التربية، والله يقول: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨]، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣].
الانتماء في الدعوة أمر مهم جداً، إلى من أنتمي في دعوتي؟ إذا كانت غايتي أن أدعو إلى الله فمن الطبيعي جداً أن يكون انتمائي إلى الإسلام، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣]، فلا نوالي ولا نعادي إلا في الإسلام وبالإسلام، والبراءة التامة من المشركين، كما قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨] كما فعل إبراهيم مع وقومه، وكما فعل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه أيضاً، وكما هو طريق الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان.
الانتماء هو إلى الإسلام والمسلمين عامة، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣] لا نحصر هذا الانتماء في فئة أو طائفة، فتكون النتيجة هي التحزب المقيت والتفرق والاشتغال بالتعصب وبالصراعات بين الدعاة عن واجب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وذلك قد يعود بالفساد على النية، وقد تفسد الإرادة، وإذا فسدت الإرادة، وشاب الإخلاص أية شائبة، فإن العمل يفسد، بقدر ما تشوبه شائبة الرياء، أو شائبة الهوى والتعصب.