[من صفات عباد الله أنه يحبهم ويحبونه]
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤] فهذا الصفة العظيمة أول ما ذكر {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فجمع بين المحبة وبين الجهاد في سبيل الله، ولذلك جعل الله هذه المحبة متبادلة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فهذا دليل على أنه اصطفاهم واختارهم من بين خلقه، وإلا فهو تعالى يخلق ما يشاء، فكل هذا الكون بيده، والكل في ملكه وفي سلطانه عز وجل، وكل ما ترى أعيننا من خلائق فهي مسبحة بحمده كما أخبر به الله بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، ومع ذلك فقد اختار هؤلاء ليحبهم وليحبوه عز وجل.
فهو الودود، والمؤمنون يودونه، هو يُحِب ويُحَب -وهو القول الذي لا يجوز الذهاب إلى سواه- وهذا قول أهل السنة والجماعة بخلاف من أنكر ذلك من غلاظ القلوب والأكباد من الجهمية وأمثالهم من المؤولين كـ الأشعرية الذين ينكرون أن الله يحب أو يحب.
يحبهم ويحبونه هذا أول الأمر، علاقة مع الله تبارك وتعالى، أما في العلاقة مع الخلق فتتصف أخلاقهم بالذل للمؤمنين والعزة على الكافرين، فهذه هي العلاقة الصحيحة التي هي صفة من يختاره الله جل وعلا، إذا ارتد الناس عن دينه فإنه يختار ويصطفي هؤلاء.
أما المحب للكافرين والكاره للمؤمنين فهذا لا يمكن أن يصطفيه أو يختاره الله، بل هو من الهالكين، وممن يشمله الوعيد الذي في الآية السابقة من سورة التوبة.
ثم يأتي من صفات أحباء الله أنهم يجاهدون في سبيله، لأنه من كمل محبته لله، وكمل ولاؤه للمؤمنين لا بد أن يجرد سيفه لمقاتلة أعداء الله عز وجل الذين يبغضون الله ويبغضهم الله تبارك وتعالى، والذين يبغضون المؤمنين ويبغضهم المؤمنون، ولا يخافون في الله لومة لائم، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقولون كلمة الحق، ولو خافوا في الله لومة لائم ما قالوا الحق، وهذه سمة واضحة في كل من خاف الخلق في الله؛ أنه لا يقول كلمة الحق أبداً، لأن أهواء الناس تخالف ذلك الحق.
فإن تكلم في الأخطاء والانحرافات والضلالات التي يقع فيها الحكام والسلاطين لم يرض عنه الحكام، وإن تكلم فيما يقع فيه التجار من المحرمات والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، فهذا لن يرضى عنه التجار، وإن تكلم في ما يقع فيه طلاب العلم غضبوا عليه، وإن تكلم في أي طائفة من الناس ممن خالفوا أمر الله ودينه، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فإن ذلك لا يعجبهم.
ولذلك فالمؤمن من صفاته أنه لا يخاف في الله لومة لائم، فمن كانت هذه صفته فهو من المختارين، وهو البديل لمن يرتد عن دين الله تبارك وتعالى، ولا يقوم بحمل أمانة هذا الدين التي هي أعظم الأمانات وأثقلها إلا من كانت هذه صفته.
ولذلك نعود إلى الأصل وهو اقتران الجهاد بالمحبة: فالمؤمن لا يبالي بمن يلومه ولا نقول: إن حقيقة الملام هي ما يسعى إليه المؤمنون، ولكن كل من عمل بتقوى الله وأحب الله وأحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأطاع الله واتقاه، وأحب المؤمنين وأبغض الكافرين فلا بد أن يتعرض لهذا اللوم.
أما الذين سموا أنفسهم الملامتية من الصوفية وأشباههم ويقولون: نتعرض للوم لكي نهين أنفسنا، ولكي نرغمها، ويتظاهرون بالمعاصي أمام العامة حتى يهينوهم ويذلوهم، ويقولون: ندفع بذلك الرياء وأمثال ذلك من الأباطيل، فهذا انحراف عن منهج التربية والتزكية الذي شرعه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر من الله، وهذا هو الملام المذموم، فهم مذمومون في أعمالهم وإن لحقهم اللوم فهو في محله.
أما المؤمنون فإنهم بإخلاصهم في دين الله واجتهادهم في طاعة الله، لا بد أن يلاموا، لأنه لم يقم أحد بشيء من هذا الدين وعمل من أجله وجاهد عليه إلا تعرض للوم.
والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم قيل عنهم: هذا ساحر، وهذا شاعر، وهذا كاهن، وهذا كذاب، وقالوا عن القرآن: أساطير الأولين اكتتبها وأعانه عليه قوم آخرون، أشياء عظيمة قيلت فيهم، فلا بد أن يقع اللوم، فما على المؤمن إلا أن يستقيم على أمر الله؛ فإن وقع عليه من اللوم -وهو لا يطلبه- فليحمد الله الذي أعانه ووفقه للصبر والثبات لكي يكون ممن اختارهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.