[عواقب سؤال غير الله]
إذا أيقنا بذلك، أيقنا أن المستحق أن يسأل وأن يستعان به، وأن يشكر هو الله وحده لا شريك له، الذي إليه المنتهى، والذي عنده خزائن كل شيء، والذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ويُضحِك من يشاء ويُبكِي من يشاء، ويحيي من يشاء ويميت من يشاء، ويُدبِّر ملكه كما يشاء.
وهذا يزيد المؤمن إيماناً وتوحيداً، ويعطيه قناعة عظيمة، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: {وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} وكما قال في الحديث الآخر صلوات ربي وسلامه عليه: {إن الغنى غنى النفس} فإذا أغناك الله عز وجل وأعطاك الصبر، فقد أعطاك من الخير ما لم يعطه أحداً غيرك، فاحمد الله تبارك وتعالى عليه، ومن هنا إذا سألت فاسأل الله.
وقد أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملة من الصحابة ألا يسألوا أحداً، منهم: أبو بكر وثوبان وأبو ذر رضي الله تعالى عنهم، حتى كان الواحد منهم إذا وقع سوطه، لا يقول لأحد: "ناولني السوط" ولكن ينزل فيأخذه بيده، وإذا انفلت منه خطام ناقته لا يقول لأحد: "أعطني" لكنه ينزل ويأخذه حتى لا يسأل أحداً إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن السؤال -مهما كان- فيه ذل وفيه إشعار بالاحتياج.
ولا ينبغي لك -يا أخي المسلم- أن تسلِّم نفسك إلا لله، وألا تشعر أحداً أنك محتاج إليه إلا الله عز وجل، إلا إذا اضطررت فهذا أمر آخر، فالناس للناس، والكل بالله عز وجل.
فليكن الأصل الذي تسير عليه هو ألا تسأل الناس وألا تتشكى، وألا تتسخط لديهم.
ولهذا كان بعض السلف عندما يرى بعض الناس يشكون، يقول له: أتشكو الخالق إلى المخلوقين؟! فبعض الناس إذا أصابه مرض ذهب واشتكى للناس، وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- يحرمون أنفسهم من الأجر ويتألمون؛ لأن الشكوى يصحبها عادةً الألم، فتكون المشاكل عندك غير موجودة، فإذا شكوت إلى أحد منهم فإنك تتألم ثم تتألم، فالذين يشكون ويتسخطون عند الناس يعاقبون بالألم ويُحرمون من الأجر، وهذا كما جاء في الحديث: {فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط}.
فينبغي للمؤمن أن يتدبر، وأن يتفطن، لهذا ولذلك قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: 'من صبر فما أقل ما يتحمل، ومن سخط فما أكثر ما يجزع' فإذا صبرت فما أقل ما تتحمل، ولو صبرت العمر كله، فالعمر كله قليل، وما أقل هذه الدنيا بالنسبة للآخرة! كما قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:٣٨] فالعمر كله قليل، فما بالك والأمر ليس كذلك؟! فلن تصبر عمرك كله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل للكرب دواءً، وللعسر شفاءً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
فإذا أصابك أمر فاعلم أن الله تبارك وتعالى سيجعل لك معه يسراً وسيجعل لك منه مخرجاً.
وعندما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله} فهذا من أعظم التوحيد، ولذلك نقرأ في صلاتنا هذه السورة العظيمة السبع المثاني الفاتحة في كل ركعة، ونقرأ فيها: إياك نعبد وإياك نستعين.
والدعاء يشمل العبادة بل هو العبادة كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فندعو الله تعالى في كل ركعة ونقول: "ندعوك وحدك"؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة، فدعاء المسألة داخلة فيها، "ونستعين بك وحدك" إياك نعبد، أي: نعبدك وحدك - كما هو معلوم في اللغة العربية.
وإياك نستعين، أي: نستعين بك وحدك؛ فالاستعانة والعبادة لله وحده لا شريك له، فنجد أننا بذلك نرقى بدرجات عالية، ولا نكاد نحلم فيها أو نتخيلها إلا إذا حققنا ذلك فِعلاً في حياتنا، فالغنى عن المخلوقين يورثك عزاً تجد حلاوته.
ولهذا قالوا: 'اسأل من شئت تكن أسيره' أي: اسأل من شئت أن تطلبه تكن أسيره لأنه يأسرك بما يعطيك ويقدم إليك.
'واستغن عمن شئت تكن نظيره ' فأي إنسان تراه كبيراً عند أهل الدنيا استغن عنه تكن نظيره؛ لأنك مُستغنٍ عنه وهو مستغنٍ عنك؛ فأنتما في مستوى واحد وإن كان الناس يرونه كبيراً، فما دمت مستغنياً عنه فأنت نظيره.
' وأعط من شئت تكن أميره ' فإن أعطيته كنت أميره؛ لأنه أصبح أسير نعمتك وعطائك.
وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل إذا احتاج، وإنما المقصود أن يكون أصل نظرتك في الحياة وأصل منهجك الذي تسير عليه كذلك.
لأن بعض الناس يذل نفسه من أجل علاوة قد تأتي وقد لا تأتي، أو من أجل مبلغ بسيط، أو من أجل شيء من الدنيا لا يستحق أن تذل نفسك من أجله أبداً.
أما الضرورة فهي أمر آخر.
لكن عندما ترى حال المسلمين اليوم -بل حال كثير من طلاب العلم- تأسف وتألم لما يذلون به أنفسهم من السؤال وإظهار الفقر والحاجة إلى المخلوقين، ولهم في الله عز وجل الغنى كل الغنى.