لو أخذنا مثالاً على ذلك، مهنة الفلاحة، ومعلوم أن الفلاحة هي أشق مهنة، وأكثر الناس في العالم قديماً وحديثاً مهنتهم الفلاحة، حتى الدول الصناعية الكبرى في العالم تجد أن الفلاحة وتربية الحيوان أكثر موارد الثروة عندهم، وأكثر قطاع من الناس يشتغل بها تقريباً، فكيف يحافظ على وقته وهو فلاح يعمل في الأرض، ولو حفظ وقته فيها لرأيت العجب العجاب، وذلك بأمور: أولاً: أن يعلم أنه يزرع للآخرة، فهو في حياته الدنيا يزرع، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{أصدق الأسماء حارث وهمام} وكل إنسان هو حارث في الحقيقة، فأنا حارث باعتباري إنساناً، وأيضا عملي الخاص في الدنيا هو الفلاحة، فإذاً ماذا أفعل؟ انظر إلى هذه الشجرة التي أبذرها وكيف أرعاها، وكيف أنميها من جهة الدنيا، فأنا أنمي وأسقي وأريد أن تثمر وأن تكبر لأكسب بعد ذلك -بإذن الله- وأعف نفسي عن الناس، وهذا حق ومباح والله بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وجعل الأرض بهذه المثابة من فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن أتفكر كيف أن الفلاَّح تحصل له هذه الكنوز العظيمة التي يحصل عليها العلماء ويحصل عليها طلبة العلم من أين أجني مثلها؟ فأنا عندي كنوز وأستطيع أن أزرع، في الجنة وأنا في الدنيا، لأن الجنة قيعان وغراسها ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأنت تزرع الأرض إذا قلت سبحان الله والحمد لله، فهذه التسبيحة نخلة، والتحميدة نخلة، والتهليلة نخلة، ومن هنا نقول للفلاح: قارن بين الفلاحتين -الله أكبر! - كيف نقارن بين نخلة أزرعها في الدنيا تمضي عليها السنوات الطوال حتى أجني ثمرتها، ومع ذلك فلو أن شخصاً قال لك: هذا النوع ممتاز (سكري) وهو ممتاز جداً، وبعد خمس سنوات ستأكل -إن شاء الله- منها، وتجني منها عشرين أو ثلاثين كيلو، فإنك ستقول: أنا أشتريها منك بثلاثة أو بأربعة آلاف، وأزرع فيها وأنا مطمئن لأني بعد خمس سنوات سآكل من هذا التمر الشهي، ولا يوجد من يقول لك: إنك خسران في هذه البضاعة! وهذا الوقت الذي أمضيه في سقيها والاعتناء بها، وهذه ثمرتها وهذه في الدنيا، فأين الجنة، وأين غراس الجنة؟! الجنة تَغرس فيها بمجرد الذكر، ولا تسقي ولا تتعب، وأين الجنة من هذا التراب؟! من الذي يقارن بين هذه الدار وتلك الدار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -سبحان الله! - أين أنهارها من أنهارها؟! وأين ظِلالها من ظِلالها؟! وأين زوجاتها من زوجاتها؟! وأين ولدانها من ولدانها؟! وأين وأين، من المقارنات التي لا تنتهي! ليس هناك نسبة للمقارنة أبداً! ومع ذلك فأنا أستطيع أن أعمل هذه الأعمال في هذه الدنيا، ولا أخسر الآخرة، بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.