[وجوب الحكم بما أنزل الله]
قال: ' {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:٤٩] '.
هذا الذي قلنا: إن فيها تأكيد لما تقدم من الأمر بالحكم بما أنزل الله، والنهي عن الحكم بما يخالف شرع الله ودينه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:٤٩] أي: احذر هؤلاء اليهود؛ فإنهم كما قال الحافظ رحمه الله تعالى: 'كذبة كفرة خونة' فهؤلاء اليهود فيهم هذه الثلاث الصفات 'كذبة كفرة خونة'.
بينهم ومع الآخرين في جميع الأزمان وفي كل مكان، هذا هو الحق في وصفهم.
قال: ' {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عما تحكم به بينهم من الحق.
وخالفوا شرع الله، وهنا -أيضاً- لفتة تربوية عظيمة جداً: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:٤٩] '.
أي: فإن تولوا وأعرضوا وتركوا حكم الله وما تدعوهم إليه: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:٤٩] فنأخذ من هذه الآية من الفقه التربوي وفقه التزكية، فبعض الناس يقول: أين العقوبة على المعاصي؟ فأمة من الأمم تعصي الله عز وجل فيزداد رزقها أو فرد يعصي الله فيزداد ماله ويفتح الله عليه فيه.
أقول: مع أن هذا داخل تحت الإمهال والاستدراج ومع أنه سيؤخذ يوماً ما أخذ عزيز مقتدر، لكن هناك حكمة أخرى عظيمة، وسر عظيم، يغفل عنه أكثر هؤلاء، وهو: أن الإنسان قد يعاقب على المعصية بمعصية شر منها، وعلى الشرك بشرك مثله أو أكبر منه -والعياذ بالله- ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله، وأن يذعن، وأن ينقاد لأمر الله، قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:١١٠] فإذا جاءك الحق فأقبل عليه؛ لأنه يخشى على الإنسان إذا أعرض عنه أن يقلب، فمهما أتاه الحق يكون قد غلف فؤاده وطبع عليه -نعوذ بالله من ذلك- فلا ينفعه ولا يدخل إلى فؤاده تذكير ولا موعظة -نسأل الله العفو والعافية- فمن إصابتهم ببعض ذنوبهم أنهم يعاقبون بأن يعرضوا عن الإيمان -نعوذ بالله- فلا يقل أحد: فلان أكل الربا، ولم تنزل عليه صاعقة من السماء، ولا خسف به وبداره الأرض.
إذاً: فالوعيد في القرآن للماضين، وكأن الكلام لا يعنينا والخطاب لا يهمنا، ولا أُنزل إلينا، ولذلك يأكلون الربا، ويقولون: ليس علينا حرج، وينسون أن آكل الربا قد يعاقب بأن يستحل الربا؛ فإذا استحله كفر على جميع المذاهب، إذ لا خلاف أن من استحل الربا كفر، حتى وإن جاء من يفتي من القائلين على الله بغير علم، ويقول: الفوائد فيها وفيها، فوالله إنهم ليعلمون أن الربا حرام، ولو جاءتهم ألف فتوى، وكتب الفقه كلها مجمعة على أن من استحل محرماً كالربا أو الزنا أو شرب الخمر فقد كفر، وفي أي كتاب من كتب الفقه الإسلامية -في باب المرتد- تجد فيه أنهم يقولون: من استحل شيئاً مما حرم الله معلوم من الدين بالضرورة مثل كذا وكذا فقد كفر.
إذاً: عقوبتك للربا صارت استحلالاً نعوذ بالله.
وقد يكون زانياً يذكر بالله، لكنه يستمر في الزنا -نعوذ بالله- عند ذلك يستمرئ هذه المعصية، فيعاقب بمثل ذلك، إما بأن يستحل الزنا، وإما بأن يكفر بالدين كله، ثم يقول: القضية قضية حرية، وحب وعلاقات عاطفية، ويحتج بالغرب، فكان أول الأمر يأتي الفاحشة ولو ذكرته بالله يخشى، ولا يصرح بها، وفي النهاية يكتب في الجريدة عنها، ويتبجح بها نعوذ بالله من ذلك.
وهذا مما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يأتي أحدهم الفاحشة أو يأتي الذنب فيستره الله عليه، فيقوم وينشرها على الملأ، فيكتب عن الحب، والعلاقات الغرامية، والصداقة ويذكر لك قصته، كيف قابل امرأة وصار صديقها -نعوذ بالله- لأن القلوب قد غلفت وطمست فعوقبوا، وهكذا في كل ذنب من الذنوب لا يأمن الإنسان أن يعاقب بأشد منه.
وبعض الناس -نعوذ بالله- ذنبه الغيبة والنميمة فهو بدأ يغتاب رجلاً ثم الثاني، ويقال له: اتق الله ولاتغتاب، اتق الله في أعراض المسلمين، ولكنه لا يبالي، فهو في أول أمره كان يغتاب الفساق، أو يذكر بعض الناس الذين فيهم أخطاء فيعاقب بعد ذلك بأن يغتاب الأبرياء والأولياء وهو لايدري، لأنه توغل في الغيبة، ولم يدر إلى أي حال قد وصل إليه! وإذا به يصل إلى أن يغتاب أولياء الله الصالحين، فتكون النتيجة كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فيصبح يحارب الله وهو يظنه مجرد كلام وحديث عابر، فليحذر كل عاقل من هذه الذنوب والمعاصي ومن أضرارها وآثارها نسأل الله العفو والعافية.