سبب نزول قوله تعالى:[لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ]
ثم بين المصنف رحمه الله سبب نزول هذه الآية، فقال: وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد، فقال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان مِنْ أمرِ استقبال بيت المقدس حيث إنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه}[البقرة:١٤٤].
وبعد أن صلّى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثمانية عشر شهراً تقريباً إلى بيت المقدس، وكانوا في حرج شديد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حرج من ذلك، ويريد أن يستقبل الكعبة فنزلت هذه الآية:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة:١٤٤] فتحول الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- وحولت القبلة إلى الكعبة، وكان ذلك أحد العلامات الفاصلة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فأصبحنا لا نستقبل قبلتهم ولا هم يستقبلون قبلتنا، ولا نتبعهم ولا يتبعوننا، فلما حصل ذلك جاء السؤال من بعض الصحابة وقالوا: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ هل تقبل منهم صلاتهم أم لا تقبل؟ فإن الناس كانوا حديثي عهد بالنسخ، ولم يتعودوا أن ينزل أمر من أمور الدين ثم ينسخ، وخاصة مثل هذا الأمر الظاهر المعلوم لدى كل فرد من المسلمين، فقالوا: إذا كانت الصلاة لا تقبل إلى بيت المقدس، فما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إليها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى تطميناً لهم فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:١٤٣] فصلاتكم إلى القبلة المنسوخة باقية، ولكم عليها أجر كبير؛ لأنكم أطعتم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في استقبالها، وفي تركها واستقبال القبلة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وبهذا يتبين أن من حكم النسخ العظيمة الابتلاء والامتحان للمؤمنين.
فالعبد المؤمن دائماً يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يقول كما قال أهل الكتاب من قبلنا: سمعنا وعصينا، وهكذا كان حال السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم-، ومن حكم النسخ تحقيق العبودية، فلو أعجبتك طاعة من الطاعات، لكن الله تعالى يأمرك في وقت معين بطاعة أخرى غيرها لسبب من الأسباب الشرعية، فلا تذهب إلى ما تميل إليه نفسك، بل تتعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فتفعل ما أمر الله به وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالمقصود أن الموضوع الأول هو موضوع القبلة، والموضوع الآخر هو موضوع تحريم الخمر؛ لأنه كما جاء في الصحيح:{مات قومٌ يوم أحد والخمر في بطونهم} وهم من أفاضل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فاستشهدوا في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والخمر في بطونهم، فجاء هذا السؤال مرة أخرى عند الصحابة الكرام، فقالوا: ما حال إخواننا الذين ما توا وهم يشربون؟ وروى الحاكم وغيره أن هذا السؤال أثاره اليهود، وهذا لا يستبعد.
فتحريم الخمر ليس حدثاً هيناً، بل هو أمر عظيم جداً، فقد أنزل الله تحريمها، وبَلَّغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك للمؤمنين، فجرت بها سكك المدينة وطرقها، وقال الله تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}[المائدة:٩١] قالوا: انتهينا، وكلٌ أراق ما عنده، فأصبحت الخمر تجري في طرقات المدينة، كأنها السواقي أو الأنهار الحمراء من هذا الشراب الخبيث؛ وانتهوا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم بذلك، فحسدتهم اليهود، وقد حسدوهم عندما تحولت القبلة، فقال اليهود: حرمت عليكم الخمر؟ قالوا: نعم؛ قالوا: فكيف حال إخوانكم الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية تطميناً لهم.