يمكن أن نستدل على هذا السر الرباني بالأدلة الواقعية من كلام الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولكن يؤمنون بالعمل وبالجد والاجتهاد وضرورة حفظ الوقت، وهذا فقط للمعرفة والمقارنة لا غير.
أُجريت تحاليل -وهذه من الأشياء التي نستفيد منها جميعاً- في موضوع الطاقة الإنسانية، ما مقدار هذه الطاقة البشرية وما قوتها، وكل من يبحث في الإنسان وطاقاته المخزونة يقولون: شيء عجيب جداً! فإن الإنسان -أيَّ إنسان- يختزن من الطاقات ما لا يكاد يصدق! فلو أتينا إلى الإنسان العادي جداً، ومستواه من الذكاء عادي (متوسط)، فيمكن لهذا الإنسان لو فجر الطاقات التي فيه، أن يكون من أعظم العباقرة، وأكبر مما نتصور، ويمكن أن يكون من أعظم القادة في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المؤلفين في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المكتشفين في العالم، كيف؟ فيقولون إن الطاقة مختزنة وموجودة، لكنها تحتاج إلى ما يثيرها وإلى شيء يفجرها.
فمثلاً: المتسابقون في الماراثون "السباق الطويل" وهو من عادات وبدع الجاهلية اليونانية ومن أديانهم، جعلوه شعيرة دينية يتسابقون عند جبال الألب جبال الآلهة ويقولون: هذه الجبال تسكنها الآلهة، وهذه عقائد دينية باطلة وانتشرت في العالم فيما بعد، فالمتسابق بعد عشرة أو عشرين كيلو إذا سقط وانتهى ولم تعد له قدرة على شيء يقول الأطباء عندما يفحصونه: ما زال هناك طاقة مخزونة حتى الآن، وهي طاقة عضوية لم تنتهي، وهذا شيء عجيب.
فما الدليل على ذلك؟ قالوا: إذا سقط المتسابق وهو يكاد يغمى عليه، وإذا بأسد فاغر فاه يريد أن يأكله فإنه سوف يقفز ويجري -فسبحان الله- من أين جاءت هذه الطاقة؟ هل نزلت عليه من السماء، قالوا: هذا دليل على أن الطاقة مخزونة موجودة، وكان بإمكانه أن يستغلها في الوقت الباقي وقد يكسب السباق، إلا أن المثير للطاقة والمفجر للطاقة كان ضعيفًا ولو كان موجودًا فيمكن أن يصبح بشكل أكبر.
لكن إذا ما أتينا لكي نطبق هذه القاعدة على واقع الجيل الأول وهم الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، ماذا كانوا؟ كانوا أعراباً من الناس، وكل العرب كانوا كذلك، فكان منهم قريش وهم أهل فضل كذلك بنو تميم واليمن كغيرهم من الناس، لكن لما آمنوا وأسلموا كيف تفجرت هذه الطاقات، وكيف تولدت هذه المواهب؟ خذوا مثالاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان يرعى الغنم في نواحي مكة، والرعاة في التاريخ آلاف بل ملايين، لكن إذا أسلم وآمن هذا الراعي -وغيره من الصحابة كذلك- فإنه يتحول إلى شيء عجيب.
مدينة الكوفة في الدولة الإسلامية التي تبلغ شهرتها شرق الدنيا وغربها، كان من أبرز الأئمة الأعلام فيها والذي تضرب إليه أكباد الإبل عبد الله بن مسعود ذاك الراعي! فكيف تفجرت وكيف أثيرت فيه الطاقات؟ فالقضية هي الإثارة، فتأتي الإثارة عند الصحابة رضي الله عنهم -وأسأل الله أن تأتينا في قلوبنا- فلم يروا كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.
قال بعض السلف: إني أريد أن أنام فأتذكر الجنة أو النار فأهب كالمجنون، فلا يأتي نوم بعد ذلك فيقرأ القرآن ويصلي، سبحان الله يريد أن يجلس، فيتذكر أن واجباً عليه في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف تريد أن تجعل هذا الوقت وقت راحة، ويأتيه فيه مثير قوي؟! والحمد لله أن خلق المؤمن كذلك، فقد يأتيه الأمر من أمور إخوانه وربما كان على فراش النوم فيستيقظ وينشط لذلك العمل، وكأنه لم يرد أن ينام بل كأنه كان يبحث عن العمل، ولربما عمل بعمل أخيه الساعات الطوال، ومن هنا نعرف سر انتصار الصحابة رضي الله عنهم لأن طاقاتهم كلها فجرت، هنالك الجنة وأنت تريد أن تنام فتتذكر الجنة، وما فيها من الحور والولدان، كما قال ذلكم الصحابي: ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل، فرمى التمرات واقتحم ساحة المعركة، لأن هذه جنة فهذا هو المثير الأقوى، أنك تذكر الجنة فتتقدم، أو تخاف من النار فتتأخر، ولذلك تمكن المؤمن من ترك أشد الشهوات عنفواناً وضغطاً وقوةً كما حصل ليوسف عليه السلام، بل كما جاء عن الرجل الذي كان في الغار، لما أتت ابنة عمه وجلس منها كما يجلس الرجل من أهله فقالت:{اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فجاءته تقوى الله وكل تلك الشهوة تتفجر فقام وتركها لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه يأتي ما هو أقوى من كل شهوة وأقوى من كل غريزة وأقوى من كل مثير، فينسى الإنسان كل شيء ويعود قوياً مستقيماً ويفجر هذه الطاقة وهذه الحواس في الخير، يقول أحد السلف رحمه الله وهو وقد وثب على كبر سنة وثبة عظيمة -أي قفز- فلما رآها بعض الناس تعجبوا وقالوا: رجل كبير ويقفز هذه القفزة الهائلة، قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر مما حرم الله، فحفظها الله لنا في الكبر فسبحان الله! لا تتبدد الطاقة فهي موجودة، فالنظر طاقة جعله الله -سبحانه- لنا، وركز نظرك وفكرك تجد العجب العجاب، ولكن هذه الطاقة هذه كالبترول لوأراقه صاحبه على الأرض فلن يستفيد منه أحد لكن لو وضعه في السيارة وشغلها لمشت السيارة بإذن الله.