الحمد لله القائل في كتابه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام:١٥٣] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي قال:{تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} أما بعد فلأهمية الموضوع ولكبر الرسالة نوجز -إن شاء الله تعالى- ما أمكن، والموضوع -في الحقيقة- هو قراءة مع شرحٍ يسير من رسالة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ولعموم الفائدة فهذه الرسالة في مجمل اعتقاد السلف، في الجزء الثالث من الفتاوى، وهي رسالة صغيرة في حجمها، ولكنها غنية قيّمة في معناها ومضمونها.
وهي تبتدئ من (ص٢٧٨) من الجزء الثالث -كما ذكرنا- والرسالة عنون لها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بعنوان 'قاعدة أهل السنة والجماعة والجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم الفرقة' أو ' قاعدة أهل السنة والجماعة ' وقد يطلق عليها: 'قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة' والمقصود أنها ليست كتاباً مفرداً له اسم مستقل، وإنما هي قاعدة كتبها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى في شكل رسالة.
وجدير بنا في هذا الزمن أن نقرأها، ونفهمها لأسبابٍ كثيرة: السبب الأول: أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى إمامٌ، وعالمٌ، وداعيةٌ، ومجاهدٌ موثوق به، ولا يشك في ذلك أحد والحمد لله، وكل أهل السنة والجماعة اليوم في هذا العالم متفقون ومجمعون على جلالته وإمامته وقدره ومكانته وكلامه حجة عندهم في هذه الأمور، وفي كل الأمور والقضايا التي تعرَّض لها رحمه الله تعالى، لا لأنه يأتي بشيءٍ من عنده، ولكن لأنه يؤصل كلامه من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع السلف، ويدلل عليه.
والسبب الآخر: هو أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله قد عاشر قضايا وأحداثاً هي أشبه ما تكون بما نعيشه نحن اليوم، فقد عاش تلك الأحداث الدامية، التي تسلط فيها التتار على الأمة الإسلامية، وسقطت الخلافة أو ضاعت هيبتها كثيراً، وهي من قبل فاقدة القيمة، وتمزقت الأمة أشتاتاً وأحزاباً وطوائف، وتناحرت من كل جهة، فكان هناك الصليبيون والتتار، وهنالك طوائف الفرق المنتسبة لهذا الدين، وهو منها براء، كـ الباطنية وقد كان لـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله مواقف عظيمة في الرد على الباطنية وغيرهم من الرافضة، وعلماء الكلام، والفلاسفة، وله في ذلك كتب مشهورة معلومة في الرد عليها.
ومن ناحيةٍ أخرى فيما يتعلق بالتعامل -وهذا أمر مهم جداً- فالوضع الذي كانت فيه الحياة الإسلامية في زمنه رحمه الله، حيث لا يوجد خليفة قوي يضبط الأمة؛ وفي المقابل وجد أمراء أو حكام ينتحلون أو يدعون الدين وهم خارجون على أحكام الشريعة، كما هو الحال في التتار الذين كانوا يحكمون بغداد، وكان هناك أمراء الجور والظلم والفساد كما كان الحال في بلاد الشام ومصر، لكن كانوا على جهادٍ لأولئك المرتدين وأشباههم.
وهناك أيضاً الطرق وضلالاتها وما تفرع عن ذلك.
فكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يعيش هذه الأحداث، التي هي -كما قلت- أقرب ما تكون إلى وضعنا الحالي وعصرنا الحاضر، ولذلك فالقاعدة التي كتبها رحمه الله في التعامل مع الأمة، وكيفية تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة، في هذه الحالة الاستثنائية قاعدة عظيمة ومهمة؛ لأننا الآن في الحالة الاستثنائية.
والحالة الأصلية والحالة الأساس: هي أن يكون المسلمون جميعاً أهل سنة وجماعة، وأن يكونوا جماعةً واحدة في كل أمورهم كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هذا غير الواقع في ذلك الزمن وفي هذا الزمن، فنحن -إن شاء الله- سنستعرض هذه الرسالة بإيجاز.