[النوع الثالث: المصادر الصحيحة من الكتاب والسنة]
المصدر الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة، بل على العالمين أجمعين أن بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] فمن هذه الرحمة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر هذه الأمة بما تحتاج إليه مما كان ومما سيكون، فلم يقتصر تعليمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بهذه الأمة -رحمته التي رحم الله بها هذه الأمة- على الإخبار عن الله تبارك وتعالى وعن اليوم الآخر وعن الإيمان والشرائع والأحكام والحلال والحرام؛ بل -أيضاً- أخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل ما يصلحهم في أمور دنياهم، ومن ذلك إخباره بما كان وما سيكون مما يحتاجون إليه في دينهم أو دنياهم، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ بعضها أخبر به تفصيلاً وبعضها أخبر به إجمالاً أو إشارة، وكل ذلك بحكمة ومقتضى الرحمة، فإن الفتن الضالة المضلة الكبيرة التي تعمي وتصم أخبر عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً؛ حتى لا يقع فيها أحد، سواء كانت أحداثاً تقع أو كانت بدعاً.
والأمثلة لا تخفى عليكم، مثلاً: فتنة المسيح الدجال، فصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القول فيها لعظم شأنه؛ لأنه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنته} ففصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ما تحتاج إليه الأمة: من أين يخرج؟ من الذين يتبعونه؟ ما هي المخاريق التي يأتي بها؟ وكيف تكون نهايته وقتله؟ إلى غير ذلك مما هو معلوم ومما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن.
وكذلك أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فتنة الخوارج؛ لأن الغلو أهلك من كان قبلنا كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الأمة يمكن أن يقع فيها ذلك أيضاً، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ الخوارج وصفاتهم وبفتنتهم، فلما ظهروا كانوا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه أمر أصحابه بالبحث عن ذي الثدية -تصغير ثدي- فلم يجدوه فقال: والله ما كَذبت وما كُذِبت، فابحثوا عنه، فبحثوا حتى وجدوه في ساقية تحت القتلى فأخرجوه، فإذا في عضده مثل الثدية! فعلموا أنه هو الذي أخبر عنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراق والفتن ليحذرهم منها وليلزمهم باتباع السنة، باتباع الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا افتراق عنه، ولا يجوز التفرق فيه، فأخبرهم بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً.
وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتفصيل أنهم سيفتحون الأرض المعمورة، وأن الروم سوف يقاتلونهم في آخر الزمان، وقد جاء ذلك -أيضاً- في أحاديث كثيرة مبيناً فيها طبيعة المعركة، والمدن التي تكون فيها، ومكان نزول الروم، وكيف تكون المعركة عند القسطنطينية أو عند روميا، والأحداث المهمة في ذلك الزمان؛ بيّنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -أيضاً- لشدة حاجة الأمة إلى معرفة عداوة الروم لهذا الدين، وأنهم سيظلون العدو اللدود الأبدي؛ لأن الروم -كما لا يخفى عليكم- كان هرقل زعيمهم وملكهم، ولما وفد إليه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن رأى الرؤيا وأخبر أن ملك الختان قد ظهر وهذا شاهد لما ذكرنا أن علم الغيب يمكن أن يطلع عليه من أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له ذلك لحكمة منه، فرأى رؤيا أزعجته، وعلم أن مَلِك الختان سيظهر، ثم كان لقاؤه بـ أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وجرى بينهما ما جرى من الحديث الطويل المشهور الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله واشتمل على عدد عظيم من دلائل النبوة، فمنذ ذلك الحين عندما أبوا الإسلام مع معرفتهم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، ظلوا العدو الأبدي لهذا الدين فلا يفصل بيننا وبينهم إلا عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا من حكمة الله أنه لا يفصل بيننا وبينهم إلا نزول عيسى عليه السلام؛ لأنه سوف يتبرأ منهم في الدنيا قبل الآخرة، فهو الذي يقتلهم عليه السلام ويقتل خنزيرهم، ويحطم صلبانهم، ويضع الجزية، أي: تنسخ الجزية فلا يقبلها منهم؛ لأنهم الآن وفي كل العصور ينتسبون إليه وباسمه يبيدون المسلمين في كل مكان، ولشدة عداوتهم وعظيم ضررهم فكان من حكمة الله تبارك وتعالى أنه هو الذي يقاتلهم بعد أن يأتي مجدداً ومتبعاً لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصلي خلف المهدي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {وإمامكم منكم} فيصلي عيسى خلف المهدي من هذه الأمة؛ ليعلم الناس جميعاً أن عيسى -عليه السلام- تابع لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا.
وقد صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بما كان وما هو كائن خبراًَ طويلاً عظيماً؛ كما في البخاري ومسلم، ورواه أحمد وغيرهم: {أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس} وفي رواية مسلم: {أنه صلى الفجر ثم خطب الناس حتى جاء وقت الظهر، ثم نزل فصلى ثم خطب الناس حتى جاء وقت العصر، ثم نزل فصلى ثم خطب حتى غابت الشمس، فأخبرهم بما كان وما سيكون} وفي بعض الروايات قال: حتى دخل أهلُ الجنةِ الجنَة، وأهلُ النارِ النارَ} ولهذا قال الصحابة: فأعلمنا أحفظنا، فحفظ منهم من حفظ، وبعضهم لم يحفظ الكل.
والمقصود أن هذا قد أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما يحتاجون إليه بالتفصيل ذكره تفصيلاً، وما كان دون ذلك فهو بحسبه، وما على الأمة إلا أن تتحرى وتجتهد في معرفة وتمييز الصحيح من الضعيف أو الموضوع من هذه الأخبار، فتتلقى الصحيح الثابت والحسن بالقبول وتؤمن به، وما عداه فإنها ترده ولا تقبله، وهذا حق، فهذا مصدر يقين وحق؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى، إنما يظل الخلاف -وهو موضع الاجتهاد- في تفسيره.
وهذا له قواعد أحب أن ألفت نظر الإخوة إليها، فلتفسير ما ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن، قواعد علمية لا يجوز للإنسان أن يغفل عنها وأن يفسرها بهواه، وقد ضل كثير من الناس في القديم والحديث عندما فسروا ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فضلاً عن المنامات أو الأحلام- بمقتضى آرائهم أو أهوائهم من غير اعتماد على منهج صحيح من العلم واللغة، أو من كلام العلماء، أو من دلائل الواقع أيضاً.