للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعاء مجلبة للخير مدفعة للضر]

ثم جاءتنا مصيبة تستوجب أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في كل حين أن يرفع هذه المصائب عن الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عاقبتها خيراً، ولن تدفع هذه المصائب، ولا ما هو أعظم منها -إذ لا ندري ما يخفي لنا القدر- إلا بضراعةٍ إلى الله، وبإخلاصٍ لله وتوبةٍ وأوبةٍ ورجوعٍ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإن الله عز وجل يريد منا قلوباً مؤمنةً {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:٣٧]، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم} فيريد الله منا قلوباً مؤمنة خاشعة مخبتة منيبة، وإن كانت العبادة قليلة، لكن هذه الأمور في ذاتها أعظم عبادة.

وأساس كل عبادة أن يكون هذا القلب متصلاً بالله، وأن يرى آثار الأمم السابقة فيعتبر بها، وأن يرى آثار نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحمد الله ويشكره عليها، ويدعو الله أن يديمها عليه.

وقد ضرب سبحانه تعالى لنا الأمثلة الكثيرة، وعامة القرآن في قصصه إنما هو من أجل ذلك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٢ - ٤٦] فنعوذ بالله من عمى القلوب، ومن قسوتها.

ففي مثل هذه المواضع ذكر الله سبحانه تعالى قسوة القلب كما في سورة الأنعام، وعمى القلب كما في سورة الحج، فالقلوب إذا قست، وإذا عميت، لم تعتبر بما ترى، وأما المؤمنون فإنهم يعتبرون ويتعظون، فإذا اعتبروا واتعظوا؛ كان التضرع، والدعاء، والاعتبار، والاتعاظ خيراً لهم، حتى إن تلك المصيبة مهما عظمت تكون خيراً، ويفرح المؤمنون بما نزل في قلوبهم من إيمان، ويعلمون أن تلك المصيبة كانت خيراً، إذ ردتهم إلى الله وأرجعتهم إلى الإيمان به، وذكرتهم بأيامه، فتنقلب المصيبة والضراء والبأساء إلى نعماء وخير وبركة؛ لأنهم تابوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتضرعوا إليه.

والدعاء والتضرع سبب عظيم من أسباب الخير، في كل أمر وفي كل وقت، كما يجب علينا أن نعلم أننا لا نستغني عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من دعائه: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين} ولهذا قال المفسرون والعلماء: 'إن خير الدعاء وخير الضراعة والتضرع، هو ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧].

وقالوا: إن الصحيح في تفسيرها أنه ليس مجرد مزيد الهداية، أو الاستمرار في الهداية، بل الحكمة من تكرارها في كل ركعة، أن الإنسان يحتاج بعد أن هداه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هداية عامة ومجملة، وهي: معرفة الحق والإيمان به، والتمسك بالدين والإيمان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحتاج مع ذلك إلى الإيمان التفصيلي، والمعرفة التفصيلية، فهو في كل يوم وفي كل لحظة تعرض له مشاكل وأمور وأحداث يحتاج أن يهديه الله تبارك وتعالى فيها الصراط المستقيم'.

فهو أعظم دعاءٍ، وناسب أن يكن في كل ركعة، وفي أعظم سورة، وأفضل سورة أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذلك نحن في كل يوم، وفي كل وقت، وفي كل طرفة عين، نحتاج أن ندعوا الله وأن نتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلم أنه كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:١٥ - ١٧] فنحن الذين نحتاج إلى أن نتضرع إليه، وأن ندعوه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تعبَّدَنا بذلك، كما في الحديث -الذي هو حسن بشواهده- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لا يسأل الله يغضب عليه} وقد نظم هذا بعض الشعراء فقال:

الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب

فالله يغضب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إن تركنا سؤاله، ويحب أن نتضرع إليه وندعوه ونرجوه ونطلبه.