للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبهة القدرية المشركية]

ولهذا عندما احتج المشركون بالمشيئة، واعترضوا بالمشيئة، أبطل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجتهم في أربعة مواضع من كتاب الله، في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨] وأكد ذلك بعد أن وقع في سورة النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:٣٥] فهذين موضعين احتج المشركون فيهما بالمشيئة، أي: في مضمون كلامهم: لو شاء الله تعالى ما أشركنا.

وقال في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:٢٠] فما معنى ذلك؟ يقولون: الله عز وجل شاء لنا أن نعبد هذه الأصنام، أي: أنه راضٍ بذلك، ولو شاء ما عبدناها، وهذا الكلام قالوه في موضع رد الرسالة وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماذا تريد منا يا محمد؟ أن نترك عبادة الأصنام؟ لا، لو شاء الله ما عبدناها، ولو شاء الله ما أشركنا.

وقالوا: ذلك في الموضع الرابع، في موضع الأمر بالإحسان: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:٤٧] فلو شاء الله أطعمهم فكيف نحن نطعمهم؟ إذاً هم يريدون ألا يؤمنوا؛ لأن الله شاء الكفر، ويريدون ألا يحسنوا؛ لأن الله لو شاء الإطعام لأطعمهم.

فالمقام هنا مقام الاعتراض والتكذيب والرد لرسالة الرسل، ولهذا عقب الله تبارك وتعالى على قولهم هذا في سورة النحل، فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:٣٦] أي فضلاً وعدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو كان الأمر كما تقولون؛ فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، يقولون لكم: هذا يريده الله ويحبه، وهذا يكرهه؟! فالمشركون إذاً لم يكونوا يثبتون القضاء والقدر، بل جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الحديث الصحيح في صحيح مسلم - يجادلونه في القدر؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليهم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩] فهم لا يؤمنون بالقدر؛ وإنما قالوا: نحن نؤمن بمشيئة الله؛ لأنهم قالوها معترضين بها على الشرع، ويريدون أن تكون لهم حجة في ترك الأمر والنهي؛ ولهذا قال عز وجل عنهم في سورة الأنعام: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩] سبحان الله يكذبهم في قولهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:١٤٨] ثم يقول: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:٩].

فقليل البصيرة قد يقول لك: كأن بعض الكلام متناقض مع بعض -عياذاً بالله- وهذا خطأ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء (كوناً وقدراً) لهدى الناس أجمعين، وفي هذه الحالة فلا يحتاج إلى رسل ولا يحتاج إلى كتب، فقد هداهم أجمعين؛ لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لهم المشيئة فقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:٣] وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩] لكنه عز وجل أقام الحجة عليهم بالرسل؛ فليس لأحد حجة على الله كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩].

إذاً: فهذا النوع الأول من أنواع الاعتراض، وهو اعتراض القدرية التي تسمى القدرية المشركية الذين اعترضوا بمشيئة الله واحتجوا بها على رد أوامره ونواهيه، ورد دينه وشرعه، وتكذيب أنبيائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.