للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[راحة المؤمن]

يقول: 'أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، وأولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه' كما قال الإمام أحمد رحمه الله: 'لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه'.

فترتاح من أي شيء قبل أن تلقى الله، نعم.

ما أمرك الله تعالى به فهو شاق، فقد أمرك بقول الحق، وقد يكون هذا مراً وصعباً وعظيماً على النفس، وأمرك بالجهاد، وهذا شاق عليك ومجهد لك، وأمرك بالصلاة، تقوم لصلاة الفجر، وإن كنت تؤثر النوم والفراش والدفء، فتقوم إلى الصلاة لتلبي داعي الله تعالى، وإن كان فيها مشقة عليك، وتنفق من مالك الزكاة الواجبة، أو الواجبات غير الزكاة كالصدقات، والمال أحب إليك، وتقاطع ابنك أو أخاك أو قريبك؛ لأنه أعرض عن طاعة الله، وهكذا فلا راحة في الدنيا.

ثم إن أعداء الله لا يتركونك ما دمت حياً.

متى ترتاح؟ لا يجد المؤمن الراحة الحقيقية إلا إذا تنزلت عليه الملائكة، كما قال تعالى: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:٣٠] فدون لقاء الله لا يستطيع الإنسان أن يرتاح، حتى لو سلم من كل شيء فرضاً، فإنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة، فيخاف والعياذ بالله أن يختم له بخاتمة السوء، فهو دائم الخوف من الله، والخوف مما أمامه.

فإذا بشر بهذه البشرى، ولقي الله عليها اطمئن، ولهذا كانوا كما حكى الله عنهم: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:٢٦] كانوا مشفقين، فأصبحوا بعد ذلك آمنين مطمئنين، بدَّل الله تعالى عنهم هذا بهذا والنتيجة هي: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:٣٥]: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:٣٤] إذاً: كانوا في الدنيا حزينين مشفقين، وكانوا وجلين وخائفين، فجاءت الجنة لا حزن فيها ولا خوف ولا وجل، وإنما الطمأنينة، يلقون فيها تحية وسلاماً، ويبشرون بنعم الله تعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله، وإلى لقاء أو مجالسة أحباب الله، الذين كانوا يحبونهم في الدنيا ولم يروهم، والآن يرونهم.

لأنك أنت في الدنيا تحب كثيرين، ولا تستطيع أن تراهم لأسباب كثيرة جداً، أما من مات ممن تحب فهذا أمر قد سبق.

فهل نستطيع أن نرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة؟ لا نستطيع ذلك في الدنيا، لكنك تحب هذا، وأيضاًً يأتي أقوام من بعدك تحبهم لكنك ما رأيتهم، ولا تستطيع أن تعيش حتى تراهم، ففي الدنيا لا تستطيع أن تحصل فيها على كل شيء تريده، فهي ضيقة دائماً.

لكن في الآخرة من نعيمها: أن الله يجمع لك بين هؤلاء وبين هؤلاء، فتجد وتلتقي بمن تحب، وأعظم محبوب هو الله عز وجل، فالمؤمنون يرون ربهم -عز وجل- في الجنة، وهو أعظم نعيم على الإطلاق.

وترى من تحب من الماضين وإن كانوا قبلك بقرون، فلو أحببت أن ترى آدم عليه السلام، أو نوحاً عليه السلام، أو المؤمنين ممن نجوا مع نوح في السفينة، أو الصحابة، أو الأئمة كالإمام أحمد -مثلاً- وأئمة الإسلام وكل من تحب أن تراه وكذلك الذين لم يأتون بعد، فإنك تراهم هناك.

فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {وددت لو أنا رأينا إخواننا -كان يتمناها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك، قال: لا، أنتم أصحابي، لكن إخواني قوم لم يأتوا} هم الذين نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، هم الذين وجدوا الكتاب والسنة فاتبعوهما ولم يروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهذا يحصل في الجنة بإذن الله تعالى، والشاهد: أن المؤمن لا يجد راحة دون لقاء ربه.

قال: 'قال فتح الموصلي: المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين' وبعض هذه الأقوال والآثار المنهج فيها معروف، فهي تحكى ولا يعني أن تلتزم بالدقة.

'وقال محمد بن النظر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله، وما يكاد يسأم من ذلك' ولا شك أن من أحب الله تعالى حق المحبة، فإنه لا يمل القرب إلى الله ولا يسأم، ولا يكاد يسأم، لكن النفس البشرية بطبيعتها أنها تمل وتسأم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن ينوع في العبادة، فهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ألَّا يتكلف في العبادة ما لا يطيق: {فإن الله لا يمل حتى تملوا} فإذا سئمت أو مللت، أو كدت تسأم وتمل من قراءة القرآن أو صلاة أو أي عمل فكف عنه، فإن الله لا يمل حتى تملوا.

قال: 'وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دأباً وشوقاً'.

ولذلك قال الله في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} فهكذا المحب لله لا يزال يتقرب إلى الله بكل شيء، قال: 'وأنشد بعضهم:

وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام

' وهذا أيضاً مما ينبه عليه وهو: إطلاق الخدمة على العبادة، وقد تجدون أحياناً في كلام بعض العلماء ذلك، وأكثر من يستخدم ذلك الصوفية، والصحيح أن العبادة أجل من الخدمة.

والأفضل في حق الله تعالىألا نستخدم إلا الألفاظ الشرعية، فنقول: عبادته، ولا نقول: خدمته.

قال: وأنشد آخر:

ما للمحب سوى إرادة حبه إن المحب بكل برٍّ يضرع

وهذا أيضاً يؤكد ذلك، فهذا كله في محبة الله تعالى.