للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الطائفة الثانية: الصوفية]

ولقد انحرفت الصوفية انحرافاً عظيماً في أعمال القلوب, فهم لم يهملوا أعمال القلب كالذين أغفلوها من المتكلمين، فـ الصوفية من جنس الضالين, وأما أهل الكلام فهم من جنس المغضوب عليهم.

فمن ضل من أهل الكلام -وهم كلهم أهل ضلال- فهو من جنس المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولكنهم تعمدوا مخالفته ولم يعملوا به، فعندهم علم في أقوالهم، ولكنهم يتركون ذلك، أما الصوفية فهم من جنس الضالين، لأنهم يعلمون أهمية التوكل، فأكثر ما يدعون ويتكلمون عن أعمال القلوب ويركزون على اليقين والإخلاص والإخبات والإنابة، ويجعلونها مقامات وأحوالاً.

وهم يعادون أهل الفقه، أو أهل الظاهر, أو الشريعة، إلى غير ذلك من الألقاب التي ينبزون بها العلماء لأنهم يرون هؤلاء العلماء يغفلون عن أعمال القلوب, فيجلس أحدهم في المسجد يتكلم عن كتاب المياه والطهارة والوضوء والصلاة والحيض والغسل والزكاة, ولا يتكلم عن اليقين أو الإنابة أو الإخلاص أو الخوف أو الرجاء أو المحبة أو الخطرات أو الوساوس أو الشكوك أو غيرها، فيقولون: هؤلاء أهل الظاهر فقط، أي: أحكام ظاهرة فقط، ويتركون الأساس، نعم هذا تقصير كما ذكرنا أن تهمل هذه الجوانب، لكن لا يفر من انحراف إلى انحراف آخر.

أما التوكل -مثلاً- عند الصوفية فهو التواكل، ولهذا عندما يأتي الغزالي في الإحياء فيجعل درجات الناس في هذا العمل العظيم, يقول: 'الناس درجات، منهم عامة الناس وهؤلاء يعملون ويتخذون الأسباب'، أي: يكدحون من أجل الحصول على لقمة العيش.

ثم قال: 'ومن مقامات التوكل الذي يعتزل في المسجد ويذكر الله ويسبح الله ويتوكل على الله برجاء ما يقدم له'، أي هذا يعطيه دينار والآخر درهم، وآخر يقول: تعال اليوم العشاء عندي، وهو جالس يعبد الله تبارك وتعالى في المسجد، انظروا كيف يكون هذا مقام من مقامات التوكل.

ثم قال: 'ومقام أعلى منه كمقام الخواص وأمثاله من أئمة الصوفية وهو الذي ينطلق ويمشي في البرية بغير زاد، توكلاً على الله تعالى، وترك الأخذ بالأسباب'، فإذا كان يريد الحج -مثلاً-: من بغداد، أو من خراسان، إلى مكة، فيخرج في البرية من غير زاد، وذلك ثقة في الله، وتوكلاً عليه، ولا يأخذ أي شيء، وهكذا يهيم في الصحراء وهذه هي الدرجة العليا من التوكل عند الصوفية، سبحان الله! كيف سيكون حال الأمة الإسلامية لو أخذت بذلك؛ لتركت الأسباب، ولتواكلت، ولأفنُيت تماماً، فيفنيها التتار والصليبيون وأمثالهما، -وفعلاً- فلما جاء الصليبيون اعتزل الغزالي الدنيا ولم يكن له أي مشاركة، والمقصود من هذا النموذج بيان خلل الصوفية في فهم أعمال القلوب كالتوكل.

أما الرضا وهو عمل عظيم, فقالت عنه الصوفية: الرضا أن ترضى بكل ما ترى في هذا الكون، أي أن تشهد الحقيقة الكونية، فكل ما قدره الله تبارك وتعالى ترضى به، فالكفر، والشرك، والسحر، والزنا، والفساد، والسرقة، والظلم، والإفك، ترضى بها لأنها من عند الله تبارك وتعالى فتشهد الحقيقة الكونية.

حتى أن بعضهم فعل الأعاجيب، فلما دخل هولاكو إلى بغداد أتى أحد شيوخ الطريقة وأخذ يقود الفرس لـ هولاكو، فقال الناس: شيخ وتقود الفرسان لعدو من أعداء الله, سبحان الله! لكن الشيخ أجاب: بأن هذا من شهود الحقيقة الكونية، فهذا قد يكون منافقاً في الحقيقة، ولا شك أن مثل هؤلاء عملاء، وفي الأصل هو أجاب بما اصطلحت عليه الصوفية، بأن هذه عقوبة من الله على المسلمين بذنوبهم، فيدخل مع أعداء الله تبارك وتعالى فيا سبحان الله على هذا الفهم! ولو أن كل واحد من المسلمين فهِم كفهم هذا الشيخ الضال، لكان كلما داهمنا عدو، ذهبنا مع اليهود، أو الصرب، أو الأمريكان، أو المجرمين، في كل مكان يحاربون فيه أو يهاجمون فيه المسلمين، سبحان الله! أما المحبة, فقالوا: المحبة إذا تعلق المحب بالمحبوب؛ رضي عنه ولم يؤاخذه بشيء, فأصبحوا -حتى في عبادتهم- إن تقربوا إليه بشيء تقربوا إليه بما يثير المحبة، يقولون: نحن أحببناه فلا يؤاخذنا في شيء، لأن الله تبارك وتعالى لما قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:١٨] قالوا: فإذا أحب الله العبد لا يعذبه بذنوبه، إذاً نحن نحب الله ويحبنا الله تبارك وتعالى فلا يعذبنا.

فكل ما يعملونه هو تهييج المحبة فقط، فيجلسون ويجتمعون رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً ومرداناً، وينشدون الأناشيد في المحبة والعشق والهيام والغرام، ومنها قصيدة امرؤ القيس فيأتون بها، والقصائد التي قالها المجنون في ليلى يأتون بها وليس فيها تغيير، ويتناغمون، ويتمايلون عليها ويقولون: هذه تهيج المحبة وتجعلنا نحب، فإذا جئنا إلى محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم يرون أنها عشق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظر إلى سوء الأدب حتى في التعبير، يرون العشق هو عشق النبي، وقد هجاهم المعري على ما فيه من الانحراف لما قال:

أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهم وأهون بالحلول

أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

لقد بلغت -كما أوردت بعض المصادر- تكاليف بعض حفلات الصوفية التي كان يحضرها سلاطين المماليك وغيرهم آلاف الدنانير والمسومات والروائح والأطياب، فترى الشيء العجيب من الترف والبذخ، فعندما يحتفلون بعيد ميلاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبتَدَع ترى بذخاً هائلاً جداً، فيأكلون من هذا البذخ ثم يقومون يرقصون ويتمايلون إلى الفجر، فقول المعري هنا على ما فيه من الزندقة ينطبق عليهم:

أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي!!

فإن أنكر هذه البدعة عليهم منكر, قالوا: هذا لا يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تستغرب منه أن يقول: هذا خارجي، أو وهابي، أو هذا لا يحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان يحبه ويحب الله لأكل كما يأكلون ولرقص كما يرقصون, نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية، إذاً هذا فهمهم للمحبة، ولذلك من غلوهم في فهم المحبة أنسوا الناس الخوف، بعكس الخوارج الذين أخذوا الخوف فقط، وأغفلوا الرجاء، فـ الصوفية أهملوا الرجاء كما قال الهروي: 'الرجاء أضعف مقامات المريدين'، إذاً هم أخطئوا وضلوا في الرجاء، والخوف، والرضا، والمحبة، وحتى في اليقين.

أما اليقين عند الصوفية فهو شيء عجيب جداً، فاليقين عندهم أن الواحد منهم ينام بعد أن يدعو بدعاء معين ابتدعوه فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في تلك الليلة، بل وصل الحال بهم إلى أنهم يرونه -كما يزعمون- يقظة، بل ويدعون أن الله تعالى يكلمهم وهم يسمعونه.

إذاً: وصلت الأمة إلى ما ترون من الحال، فالطائفة الأولى أناس انصرفوا إلى فقه مجرد, مع أن الفقه في حقيقته هو العلم الشريف العظيم الذي منه الفقه الأكبر وهو التوحيد، ولكنهم انصرفوا إلى مجرد أحكام ومسائل يبلغون فيها الدرجات والمناصب، ولكنهم في بعدٍ كامل وشديد عن تزكية القلب وتطهيره وتنقيته، والإجلال لله تبارك وتعالى والخشوع، والخضوع والإنابة له وتوحيده كما أمر الله تبارك وتعالى.

والطائفة الأخرى التي ينظر إليهم على أنهم هم أهل العبادة وأهل الذكر، تجدهم في الموالد وعند الأضرحة، وتجد العمائم والمظاهر ولكن كما قيل في القديم: 'العمائم أبراج، والأكمام أخراج، والعلم عند الله تبارك وتعالى'، هذا هو حالهم، فهم أصحاب موائد، ومناسبات، واحتفالات، ويتكلمون عن أمور هي من أصل الدين كالمحبة والرضا واليقين وما أشبه ذلك, والكرامات والولاية وكيف يصل الإنسان إلى ولاية الله تبارك وتعالى، والموضوع نفسه موضوع عظيم لكنهم يتكلمون فيه بجهل، وبدع وضلال؛ فضاعت الأمة بين هذا وذاك.

والحق هو الوسط وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المعلوم، حديث الافتراق فقال: {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي}.

نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا العلم النافع إنه سميع مجيب