[القول الثاني في سبب النزول]
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] و {فأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧] قال: قال ابن عباس: {أنزلها الله في الطائفتين من اليهود -أي: قبيلتين من اليهود- وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق} '.
فحصل الشطط، فالنفرين من الضعيفة يعادل نفراً من القوية، سبحان الله! وهذا الذي أنكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكرته الفطرة السليمة حتى فطرة اليهود في الجاهلية.
ولو نظرنا إلى المعمول به الآن في العالم المعاصر، في ظل ما يُسمى بحقوق الإنسان لوجدنا العجب، فلو حصل حادث طائرة وتحطمت فإنهم ينظرون إلى وظائف الركاب، فإن كان دبلوماسياً فديته قد تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي، وإن كان مهندساً -مثلاً- مائة ألف دولار، وإن كان فنياً خمسون ألف دولار، وإن كان عاملاً عشرة آلاف دولار وهكذا.
فهذا ما يسمونه: العالم المتحضر، ويدعون فيه إلى المساواة في الإنسانية، فالذي كرَّم بني آدم حقاً وساوى بينهم هو كتاب الله ودين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالناس في ظله سواسية، وإن كان الكافر ديته غير دية المسلم، إلا أن الكفار كلهم ديتهم واحدة، والمسلمين كلهم ديتهم واحدة.
قال: ' {فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض} '.
أي: ما دمنا نحن متساوين في كل شيء، فلماذا الدية تختلف؟! والذي جعل القبيلة الذليلة ترفع رأسها، وتطلب المساواة، هو قدوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزول الدين الحق، وبعثة مُعلِّم الإنسانية الخير صلوات الله وسلامه عليه، الذي علَّمهم العدل حتى على نفسه، وعلى بني دينه وقومه، وأقرب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، بل دعا الله إلى تثبيته، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:٩٠] فلأجل هذا قالوا: {إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم -أي: خوفاً منكم- فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم}.
أي: فقد أنقذنا الله، وجاءنا محرر الإنسانية، فلا يوجد ذليل وعزيز ومقهور ومتكبر.
قال: ' {فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم، ثم ذكرت العزيزة} '.
هذا في أول الأمر ما اتفقوا عليه، وقالوا: لو أنه أتانا بالوفاء بالعقود، فقالوا: نقول له هذا شيء اتفقنا عليه فلا بد أن يحكم لنا، ثم رجعوا إلى أنفسهم، فقالت: ' {والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم} '.
فلا يمكن أن يقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا التفاوت لأنه نبي الرحمة ونبي العدل، يقول: {ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم}.
أما في هذا الزمن فقسَّم اليهود أنفسهم إلى نصفين: صهاينة وغير صهاينة، ثم قُسِّم الصهاينة إلى نصفين: حمائم وصقور، وهل اليهود فيهم حمائم؟! لم نسمع ذلك في القرآن الكريم ولا في السنة ولا في التاريخ، وهناك أناس متطرفون وأناس معتدلون، فهذا لا يمكن ولو قدم بعض التنازلات، فهو لا يقولها لأنه حمامة أبداً، وإنما يقولها لأن هذا الثعلب يرى أن هذا أوثق لمصلحة إسرائيل، والآخرين الذين نسميهم الصقور هم نوع آخر من الثعالب يقولون: ليست مصلحة إسرائيل في هذا وهكذا، فلا يمكن أن ندع ما في كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتاريخنا كله، ونأخذ بما تقوله أبواقهم المأجورة في بعض الصحف التي تصدر بعد التطبيع.
فهنا يقولون: كيف الحيلة؟ قالوا: {فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه قبل أن تحكموه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -فقالوا لهم: أنتم تجالسون محمداً فاخبروا لنا رأيه- فلما جاءَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمرهم كله، وما أرادوا -فأطلعه على ما عندهم- فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:٤١] الآية إلى قوله تعالى: ((الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:٤٧] قال: ففيهم والله أنزل، وإياهم عن الله عز وجل}.
وهناك رواية أخرى، قال: {إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك: أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تُؤدى الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يُؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق، فجعل الدية في ذلك سواء} وذكر أيضاً رواية ابن جرير وغيره.
فتكون الآيات هذه دالة على أن الحكم في: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:٤١] ليس الرجم، وإنما هو الدية، ويمكن أن يكون السياق دالاً عليه.
ثم ذكر روايةً عن ابن عباس، وأنه روي أيضاً عن ابن عباس نفسه رضي الله عنهما أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، قال: 'كما تقدمت الأحاديث في ذلك'.