قال الشيخ رحمه الله: 'وقد قال -عز شأنه- قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}[المائدة:٤٨]، وقال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[المائدة:٤٩]، وقال تعالى مخيّراً نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم إن جاءوه لذلك:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[المائدة:٤٢] والقسط هو العدل، ولا عدل حقاً إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق'.
يبين الشيخ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها في هذه الآيات الثلاث، وهي:{فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}[المائدة:٤٨]، وفي الأخرى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}[المائدة:٤٩]، وفي الثالثة:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}[المائدة:٤٢]، وهذه كلها تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا بما أنزل الله، وأن الحكم بما أنزل الله هو القسط والعدل، وأن ما عداه هو الجور والظلم والكفر، أما تخيير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحكم بين الكفار أو تركه، فبعض العلماء يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّر في أول الآيات ثم أوجب الله تبارك وتعالى عليه أن يحكم بينهم بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}[المائدة:٤٨] فلا تخيير؛ بل يجب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبعض العلماء يقولون: لا نسخ في الآيات وإنما المقصود بالآية الأولى قوم، والمقصود بالآية الأخرى آخرون، فالذين خُيِّر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم قوم ليسوا داخلين تحت حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسوا من أتباع الدولة الإسلامية التي رأسها وحاكمها هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الراجح لأن اليهود منهم من كان داخلاً تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم: قبائل أخرى كخيبر لم يدخلوا في حكمه إلا بعد أن جاهدهم.
والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمر في هذه الآيات الثلاث أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأن هذا الحكم بما أنزل الله هو القسط، ثم يقول الشيخ بعد ذلك: 'ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:٤٤] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:٤٥] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة:٤٧] '.
فهذه الثلاث الآيات في موضوع الحكم، وهي ضمن الآيات التي سوف نتعرض لها -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل، ونبين هل هي أوصاف لموصوف واحد؟ فالذين يحكمون بغير ما أنزل الله تنطبق عليهم هذه الصفات الثلاث بأنهم كافرون وظالمون وفاسقون؟ أو أن الكافرين قوم، والظالمين قوم، والفاسقين قوم؟ ثم من هم هؤلاء: هل هم أهل الكتاب خاصة؟ أو أنهم كل من تشملهم الآية من اليهود ومن المسلمين ومن غيرهم؟ أو أنّ هناك بعض تفصيل؟ أو أن المسألة كفر دون كفر؟! كل هذا سيرد -إن شاء الله تعالى- وإنما المقصود هنا أن الشيخ يريد أن يبين أن الله تعالى أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث آيات بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأن يحكم بينهم بالقسط، وأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق.