أهل السنة والجماعة -ولله الحمد- يثبتون ذلك فهو عبد الله ورسوله، فهم الذين يتمسكون بهديه في العبادة، وهم الذين يتبعون ما جاء به من الشرع والدين، فلا ينقصونه قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هم أعظم الناس له حباً وتقديراً وإجلالاً، كما سمعنا في محبة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ومن بعدهم، من السلف، وهم أيضاً في نفس الوقت لم يخرجوه عن حده.
فلم يقعوا فيما نهى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما وقع فيه غيرهم، وهما الطرفان اللذان أشرنا لهما، وهذان الطرفان هما كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، عندما تعرض لهذا الموضوع، فذكر 'أن باب محبة الله ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فيها طرفان فطرف أول وهم أشباه اليهود، أما أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها وكذبوا بتحقيقها، وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين، فالأولون يشبهون المستكبرين وهؤلاء يشبهون المشركين، ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود ويكون الثاني في أشباه النصارى'، وهذا من جامع وأدق الألفاظ التي تدل على حقيقة هؤلاء القوم.
أما الطائفة الأولى: وهم الذين فيهم شبه اليهود، فهؤلاء قساة القلوب، غلاظ الأكباد، لم تتخلل محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلوبهم، ولم تخالط شغافها، ولم تنعم وتسر قلوبهم لمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل تلك الغلظة والجفوة والقسوة ظاهرة بادية عليهم في تعاملهم معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يكادون يذكرونه إلا قليلاً وإذا ذكروه لا يصلون عليه ولا يسلمون.
وأشد من ذلك وأشدهم في ذلك من تخلى عن سنته، وحارب أتباعه الداعين إلى التمسك بدينه والتحاكم إلى شريعته ووالى أعداءه الذين يكذبونه ويجحدون رسالته، كمن يوالي اليهود والنصارى والمشركين ويتبع قوانينهم وآرائهم ومناهجهم وأحوالهم وتقاليدهم.
هؤلاء أبعد الناس عن محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الطرف الأول الذي كان بهذه الأمة فيما سبق شيئ منهم، أو نموذج لهم، وهم الفلاسفة والمتكلمون وغيرهم، ولكن بلغ هذا الأمر ذروته في هؤلاء المتخلين عن دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنهم منسلخين عن شرعه بالكلية، نسأل الله السلامة والعفو العافية.
والكلام في هؤلاء لا يحتاج إلى إطالة، فحسبهم هذه الأوصاف، حسبهم جفوتهم وغلظتهم، وإهدارهم لمقام نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما الطرف الآخر: الذين هم أشباه النصارى وأشباه المشركين؛ فهم في الواقع طرائق شتى، ولهم في الانحراف أيضاً طرق شتى، وعامة المسلمين هم إما منهم أو من أتباعهم نسأل الله أن يردهم إليه رداً حميداً، فقد وقعوا فيما وقعت فيه النصارى من الغلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كما غالى النصارى في عيسى غلواً ذهب بهم ذات اليمين وذات الشمال، حتى إنه في بعض الأحيان يكون فيه تنقص لقدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإهدار لمقامه وهم لا يشعرون، لقد ضلوا في فهم المحبة فجعلوها مسألة عاطفية وجدانية، ولهذا نجد غالبهم يجعلون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجرد ذكرى ترتبط بزمن معين أو حال معين، ولا يلقون ولا يسخون سمعا لأمره ونهيه فلا عمل القلب يتحقق ولا عمل الجوارح، وإنما هذه العاطفة الهائمة فقط.