وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه إنما كانوا يواجهون هذه الدعوة، ويتحملون أعباءها بتلك القوة العاطفية الوجدانية، التي أخرجوا بها الناس من الظلمات إلى النور، كيف كانت شجاعتهم؟ وكيف كان إقدامهم؟ وكيف كان تعاونهم؟ وكيف كانت هجرتهم؟ لم تكن مواقفهم وثباتهم إلا نتيجةً لهذه العاطفة ولهذا الوجدان، ولكنه وجدانٌ إيمانيٌ منضبط.
وقد يقع أن تثور العاطفة، ولكنها أيضاً تضبط وتنضبط، وفي مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة المتعددة ما يبين ذلك، فمثلاً في موقفه يوم الحديبية، عندما كاد أن يعترض على ما اتفق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقره مع الكفار: كان يقول: {يا رسول الله، ألسنا المؤمنين؟ أليسوا مشركين؟ فكيف نرضى الدنية في ديننا} ويصرخ ويضطرب ويتألم.
فهذه عاطفة إيمانية، وموقفٌ حميدٌ في أصله من حيث المنبع، لكن في إخراجه وفي كيفيته خطأ، ولهذا يقول بعد ذلك الموقف: عملت لذلك أعمالاً، حيث كان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إذا تذكر موقفه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية يتصدق ويعتق وينفق ليكفر عن ذلك الموقف.
وأيضاً موقفه من المنافقين، فالرجل الذي ترك التحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراد أن يتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة، كيف كان موقف عمر رضي الله تعالى عنه منه؟ وأيضاً الرجل اليهودي الذي أراد أن يختبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرى هل الصفات التي في التوراة موجودة فيه أو غير موجودة، فيأتي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشده شداً، ويجذبه جذباً، فيقول عمر رضي الله تعالى عنه:{يا رسول الله! دعني أضرب عنقه}.
ومواقف كثيرة يقول فيها الفاروق:{يا رسول الله! دعني أضرب عنقه} لكن ماذا حصل للفاروق رضي الله تعالى عنه عندما أصبح هو الخليفة، هل ضرب عنق أحد بمثل هذه السرعة؟ إنما بذلك الموقف كان هيبة وقوة للدين، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنالك، فإن فعل أمراً فبأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نتيجة عاطفته هو واندفاعه، وإن لم يفعله حصل المراد، وهو الهيبة لهؤلاء المنافقين وأمثالهم، وحصل إظهار لعزة الدين ولمنعة المؤمنين، وفي نفس الوقت لم تحصل المفسدة التي لا يريدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مثال من أمثلة كثيرة.