الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل:{والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار} وبعد: فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً على ما أفاء به علينا من النعم، ومن أعظمها نعمة الإسلام فهي أعظمها جميعاً، ونعمة اتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الاجتماع واللقاء الحافل الحاشد الذي حصل كان اجتماعاً عظيماً مباركاً، كما عبر عنه فضيلة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فقال: 'لا أعلم في تاريخ المنطقة حفلاً مثله' وهذه شهادة من هذا العلامة الثقة على كبر سنه وغزارة علمه، نعم إنه حفل لا نقول: إن المنطقة لم تشهد مثله قط، بل نقول: إنه لم تشهد مثله منطقة أخرى، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك جهود القائمين عليه، وأن يوفق جميع العاملين لإحياء سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يحقق لهم نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر:٥١] وإنني لأعجز كل العجز مهما كانت العبارات عن شكركم وعن تقديري لحفاوتكم، وإكرامكم البالغ الذي لا أستحق جزءاً يسيراً منه، ولكنه طبعكم الكريم، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجازيكم عن هذا خير الجزاء، وأن يجعلنا جميعاً خداماً وجنوداً لدينه، ولدعوته.
ولقد كان من توفيق الله تبارك وتعالى لهذه الفكرة التي نريد في هذا الدرس أن نعرضها على هذه الوجوه الخيرة الطيبة، أن يأتي هذا اللقاء بعد ذاك اللقاء الحاشد، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى.
وحفظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما تعلمون يكون على نوعين: أما النوع الأول: حفظها في ذاتها واتقانها.
والنوع الثاني: هو حفظها بالذب عنها، والدفاع عن حوضها، ودفع شبهات المبطلين الذين يكيدون لها، وهذا هو الجانب الذي أرجو أن يكون ما أعرضه في هذا الدرس كافياً في حدود طاقتنا البشرية، لكي نسد هذا العجز والخلل بإذن الله تبارك وتعالى، فإن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه وشرعه لها علينا حق عظيم، فهي الأمانة التي حُملنا إياها نحن معاشر طلبة العلم، وهي الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى، وهي الميراث الذي أورثنا إياه رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فإنه من الواجب علينا أن نجتهد في حفظها كل الاجتهاد ولا نألوا في حفظها.
وحفظ السنة والشريعة والدين بدفع الصائل عليها، وإقامة الحجة عليه، وجهاده بالقرآن جهاداً كبيراً، هذا يستدعي جهوداً عظيمة نعجز عنها، ولا سيما من كان في هذا الزمان والله المستعان، ولكن الله بفضله وجوده ومنَّه وكرمه منَّ علينا بوسائل عظيمة، ومنَّ علينا بعلماء أفذاذ في الماضي قاموا بهذا الواجب قياماً عظيماً، ولو أننا قمنا بإحياء ما كتبوه ونشره وشرحه وإيضاحه لكان ذلك عملاً عظيماً، ثم نسد ما بقي مما استجد من ضلالات وشبهات وغيرها مما يقتضي الحال أن نبينه، وأن نكون قائمين لله تبارك وتعالى بالحجة في عصرنا الذي نحن فيه.
والأعداء الذين يكيدون لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم كثيرون جداً، وعلى رأسهم أهل الكتاب الذين ذكر الله تبارك وتعالى عداوتهم وحسدهم ومكرهم وغيظهم لنا -لأن الله تعالى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب الأميين- في غير ما موضع من كتابه، يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة:١٢٠] ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:١٠٠] فهذا شأنهم، وهذا دأبهم في جميع العصور منذ أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام عليهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجة، ولا سيما النصارى الذين هم موضوع هذا الدرس.
فقد أقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم الحجة عندما أتاه وفد نجران، وقرأ عليهم ما أنزل الله تبارك وتعالى عليه من الحجج العظيمة في صدر سورة آل عمران، وكذلك كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل والمقوقس وغيرهما من ملوك النصارى، وجهاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنصارى معروف كما حدث في غزوة تبوك، وأمثال ذلك مما يظهر به عداوة هؤلاء، ويظهر به أيضاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بأمر الله وبمجاهدتهم وإقامة الحجة عليهم؛ فإنهم كانوا أول كافر به، وبالذات اليهود، ثم إنهم عادوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك حذر أمته من عداوتهم، وأخبر عن ذلك بأنهم في آخر الزمان سيجتمعون وينزلون بـ الأعماق أو بـ دابق لمقاتلة المسلمين، والأحاديث في الفتن والملاحم كثيرة، ولن تنتهي هذه المعركة مع أهل الكتاب إلا بنزول المسيح عليه السلام عبد الله ورسوله، الذي ألهوه وعبدوه من دون الله، فإذا نزل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَم وكسر الصليب، وقتل الخنزير، ورفع الجزية، وقتل المشركين هؤلاء، حينئذٍ يظهر الحق، وتتطهر الأرض من شرك هؤلاء المنتسبين إليه زوراً وظلماً وعدواناً.
إن الكلام في هذا الموضوع -أيها الإخوة- طويل، وحقيقة الأمر أن موضوعنا في هذا الدرس إنما هو غرفة من بحر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وهو كذلك عمل بطريقة أو بطرق -لأنها قد تكون أكثر من طريقة- مما اقترحه فضيلة أخونا الشيخ سلمان بن فهد العودة -حفظه الله- في مقاومة التنصير، ومن هنا كان لا بد أن نتعرض بشيء من العجلة للبداية التاريخية لهذه العداوة ولهذا التنصير، ثم للكتاب الذي هو الموضوع الرئيس في عملنا، ثم نوجز لكم شيئاً مما نريد أن نعمله إن شاء الله.