للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقع الحكم بما أنزل الله من الدين وأهميته]

قال المصنف رحمه الله تعالى: 'وهنا أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين.

وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه به أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كافراً كُفراً مجازياً أو كفراً أصغر.

وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور'.

موضوع الحكم بما أنزل الله موضوع مهم وخطير وعظيم الشأن، وقد كثر فيه الجدل والنزاع في القديم، ولكنه في هذا الزمن أصبح أكثر مما سبق، ولا بد للمؤمن الذي يريد أن يعرف دينه، وأن يعرف معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن يعلم حقيقة هذا الأمر ومنزلته ومكانته من دين الإسلام، وهذا -إن شاء الله- الذي سنجعله تقدمة أولى لكلام المصنف رحمه الله، فسنتحدث عن أهمية الحكم بما أنزل الله، وما موقعه، وما مكانته، وما علاقته بتوحيد الله تعالى والإيمان به؟ ثم نتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن تاريخ الانحراف في حياة البشرية عن الحكم بالكتب التي أنزلها الله تعالى، وهي كتاب واحد باعتبار أن غايتها واحدة وهدفها واحد ودعوتها الأساسية واحدة، ومتى ظهرت القوانين الوضعية؟ سواء منها المكتوب أو العرفي غير المكتوب؟ ثم ما وصلت إليه الحالة في العالم الإسلامي المعاصر بهذا الشأن.

وبعد ذلك -إن شاء الله- سوف نتكلم بالتفصيل في آيات الحكم، ولا سيما قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] ونبين ما وقع عندها من إشكال عند بعض الفرق والطوائف، وما هو منهج أهل السنة والجماعة ومذهبهم في هذا الشأن.

فهذه الثلاث الأصول لا بد من معرفتها ثم بعد ذلك نشرع في كلام المصنف رحمه الله، لأن هذا الموضوع المهم لم يكن علماء العقيدة وعلماء السلف الصالح قديماً يكثرون من الحديث عنه، وإن كانوا قد تكلموا فيه كما تكلموا في سائر الأمور؛ لأنه لم يكن في عصرهم من ينكر حكم الله، أو يخرج على حكم الله، أو يجاهر بأنه لا يتحاكم إلى شرع الله، ومع هذا يزعم بأنه مسلم، وإنما ذكر الله تعالى هذه الحالة عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:٦٠] فهذه حالة شاذة وقعت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فأول فقرة هي: موقع الحكم بما أنزل الله وأهميته.

ونقول: إن الحكم بما أنزل الله هو جزء من التوحيد، فعندما يقول المسلم كلمة التوحيد التي بها يدخل الإنسان في الإسلام، فمعنى ذلك أنه قد التزم وأقر بألا يتحاكم إلا إلى الله وإلى شرعه، وإلى ما أنزله، وأنه كافر بالطاغوت، لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله هي -كما بين الله تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:٢٥٦].

فهذه هي شهادة أن لا إله إلا الله مكونة من ركنين: ركن النفي: لا إله، وهو الكفر بالطاغوت.

وركن الإثبات: إلا الله، وهو الإيمان بالله، والشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.

فمعنى الشهادة بأنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يحكَّم قوله الذي هو الوحي سواء كان مبلغاً إياه عن الله أم من عند نفسه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:١] فلا يقدم بين يديَّ الله ولا بين يديّ كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأي ولا هوى، ولا معقول كما كان يسميه الأولون من علم الكلام أو أي شيء يعارضه.

فكلمة مسلم أو مؤمن تعني: أن الإنسان مذعن منقاد مستسلم لأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يتحاكم إلى غير الله عز وجل أبداً، وإنما ذكر الله من يريد أن يتحاكم إلى غير شرع الله عن المنافقين، سواء كانوا في الأمم السابقة كاليهود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:٢٣] أو كانوا منافقي هذه الأمة: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:٤٨] {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:٤٩] {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:٥٠].

فهذا حالهم وهذا شأنهم، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، فهم ليسوا مقرين حقيقةً بأن الله هو الإله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله، ولم يشهدوا بذلك حقاً، ولو شهدوا به حقاً وآمنوا به صدقاً لما عدلوا عن التحاكم إليه، وتحاكموا إلى غير شرع الله، وإلى غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والكلام في هذا كثير جداً مما ذكر الله تعالى في القرآن، ومما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة، ومما تكلم به العلماء، ومنها ما ذكره وتكلم به العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في هذا الشأن، وهو من هو في علمه وفضله وتبحره وتوسعه في العلم والفقه واللغة والبيان، وهو رحمه الله ورضي عنه وأرضاه عاش في عصرنا هذا، وأدرك هذه القوانين، وعرف خطرها وضررها وشرها، وتكلم فيها وفي أهلها بمقتضى كتاب الله تعالى.

كما ذكر في كتابه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، فبين في تفسير سورة الشورى في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:١٠] فذكر أمراً عظيماً جداً متعلقاً بهذا الشأن، وهو أنه رحمه الله ربط موضوع التحاكم إلى شرع الله وإلى ما أنزله بصفاته سبحانه تعالى.

فبين أنه لا يستحق أحد أن يتبع شرعه إلا من كانت صفاته هي صفات الألوهية، وهو الله تعالى الذي لا ينازعه ولا يشاركه أحد في هذه الصفات، ومن لم يكن إلهاً متصفاً بصفات الألوهية الحقة فإنه لا يصلح أن يتحاكم إليه ولا إلى قوله، لما فيه من الضعف والجهل والعجز والهوى، وسائر صفات النقص التي لا بد أن تعتري كل مشرع من دون الله، ولعلنا -إن شاء الله- نأتي على بعض ما في القوانين الوضعية من تناقض وتضارب وخلل ظاهر، سواء ما كان منها في الشرق أو الغرب وهذا واضح بين والحمد لله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢].

ففيها كلها اختلافات وتناقضات، والعاقل إذا تأملها أيقن وصدَّق أن شرع الله هو وحده الحق، وأنه لا خير ولا سعادة ولا صلاح إلا في اتباع شرع الله الحكيم العليم السميع البصير الخالق الرازق إلى آخر الصفات التي ربطها فضيلة الشيخ رحمه الله بهذا الموضوع.