للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة في تبليغ الحق]

السؤال

من المعلوم أن تبليغ الحق إلى الناس يحتاج إلى حكمة بالغة، ومن الملاحظ من بعض من هداهم الله للحق، أنه يتخذ طرقاً في التبليغ قد تعود عليه بمشاكل عدة وعلى إخوته في هذا المجال، وإذا قلت له: لابد من الحكمة قال: إن الحكمة التي تدعيها هي في الحقيقة مداهنة، ويقوم أحياناً بأمور يستطيع عليها أهل الحسبة لما لهم من سلطة ولكنه تسرع، فما توجيهكم له؟

الجواب

هذا واقع، وهذه حقيقة، ونحن بغض النظر عن الأذى وعن الألم، بعض الناس عندما تذكره يقول: أنا مضحٍ ولا يهمني سبحان الله! لننظر إلى حال السلف الصالح، الصحابة رضي الله عنهم أكثر منا تضحية، فقد كانوا يطلبون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم في قتال الكفار وهم في مكة، ولو أذن لهم لربما قامت منهم مجموعة وهجموا على المشركين في دار الندوة، ففتكوا بهم، وانتهت القضية، ولكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم بالصبر.

ولما نزل الأمر بالجهاد ما نزل أمراً، ولكن نزل إذناً كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:٣٩]؛ لأن القلوب متشوقة متحرقة من قبل يريدون ذلك.

والحمد لله هذه علامة خير، وعلامة إيمان، لكن المطلوب تغيير المنكر فإذا رأيت مثلاً جهاز أغاني بجوار بيت الله الحرام هل أدخل فأحطمه؟ لا ينبغي أن أقوم بعمل فتنة، لكن أنصحه وأعظه، ولا أقول: دعهم ولا تتكلم معهم، فهذا غلط وألف غلط.

إن القضية: هل هذا العمل صحيح؟ وهل هو سديد؟ هل فعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام؟ هل لك أنت أن تغير باليد؟ وهناك أسئلة كثيرة يجب أن توقف مثل هذا الشاب عند حده.

فنجاح الدعوة الحقيقي يقاس بمقدرتك على أن تعري المنكر أمام الناس، حتى تضمن من أنهم إذا رأوه تقشعر منه جلودهم، لا بأن تحجبهم عنه.

في أمريكا بلاد العهر والفجور والدعارة والفسق والفساد، الشاب الذي لديه مكافأة ضئيلة يقتطع من مكافأته للمراكز الإسلامية، ليقاوم الشهوات، ويقاوم المغريات، والمنكرات، فهذا الشاب ترتاح لمثله.

نحن لا نقلل من أهمية إنكار المنكر أبداً، ولكن يُنكر بالطرق المشروعة، والمهم عندنا هو نجاح الداعية بحيث يستطيع أن يجعل الناس مقتنعين بإنكار المنكر بقلوبهم، ويرفضونه حتى ولو عرض عليهم، حتى لو بذل لهم الثمن، بحيث لو جئت إلى شاب تقي مؤمن، وقلت له: هذا مليون ريال، وهذه مخدرات أو سجارة فاشربها، لا يشربها -انظر كيف تبذل المليارات لمكافحة المخدرات أو لغيرها- أما هذا فيرفض أن يأخذ مليون ريال! هذا من الإيمان، وهذا النوع لا يرجوه أي غاصب، وهذا الذي تطمئن إلى أنه صار جندياً لهذا الدين، وسيستمر على ذلك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما مجرد أن هذا المنكر ذهب أو زال أو اختفى؛ فالحقيقة لو أن الأمر بهذه الطريقة، فهذا يعتبر أمراً سهلاً، وليس صعباً.

وأضرب لكم مثالاً: لما دخلت الشيوعية إلى أفغانستان دعا داع الجهاد، فقام وهب الفلاحون والعمال والطلاب والموظفون، وفي أشهر معينة أو في عدة أسابيع تدربوا على معظم أنواع الأسلحة، وتقدموا في هذا المجال فهزموا الشيوعيين والحمد لله.

وهذا دليل على أن كون الإنسان يستوعب الإنكار باليد أو يجاهد باليد ليس بتلك الصعوبة؛ لكن المشكلة هل يستطيع أن يأتي هذا الشاب إلى جاره، أو أمه، أو زوجته، فيجعلهم ينكرون المنكر، هنا الصعوبة، ومن هنا كان دور الأنبياء شاقاً وصعباً.

فهذا نوح -عليه السلام- مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يسلم له إلا قرابة المائة؛ لأنه يخرج الإنسان من الكفر والشرك والمعاصي راضياً مختاراً، ولو عرضت عليه لأباها، أما مجرد التهور أو التسرع والتعجل فلا يفيد، والعاقبة لن تكون سليمة قطعاً.