هناك قضايا كثيرة قد نغفل عنها وهي في صميم الموضوع، كموضوع البناء: مثلاً، فعندما استقدمنا مهندسين كفرة، ومنظمين ومخططين للمدن من الكفار، أو من تلقى على أيديهم، أصبحت مدننا مدناً غربية بالفعل، وفقد الطابع الإسلامي لها، ولا نفرق بين البناء الإسلامي وغيره، الحياة الإسلامية والحياةُ عامةً أجزاء وعناصر عضوية متماسكة.
أصبحت بيوت المسلمين تستر بالزجاج! وما كان آباؤنا يعرفون هذا الزجاج أبداً، فأصبح الزجاج والألمنيوم من جميع الجهات، فلم يكفنا أن تبرجت النساء حتى تبرجت العمارات أيضاً، فأصبح الإنسان يرى المرأة ويرى الناس وهم في أعماق البيت عن طريق هذا الزجاج! والأوروبيون إذا وضعوا الزجاج، فلأنهم يكادون لا يرون الشمس، فيفرحون ويحلمون أن يروا الشمس، والشعراء الأوروبيون لهم قصائد ودواوين في الشمس؛ لأن عندهم ضباباً طيلة السنة، فيفرح إذا رأى الشمس، فيجعل للبيت زجاجاً، فإذا أتت الشمس يتلذذ بها ويتنعم بها، ونحن في بلاد الحر الشديد نرى الشمس طوال العام، فنفرح ونتغنى إذا رأينا سحابة! هؤلاء القوم جاءوا وخططوا لنا فجعلوا العمائر متراصة عالية، والشقق متجاورة ضيقة، وضعفوا الزجاج في جميع الجهات ومن جميع الأطراف، وكذلك الشرفات التي تسمى البلكونات لم يعرفها آباؤنا أصلاً، فبيوت المسلمين في القديم كانت النوافذ عالية ومستترة، والباحات أو الساحات في داخل البيت، أما هؤلاء فهم في داخل البيت كالعلبة المعلبة، فأين تخرج المرأة؟ أين تنشر الملابس؟ وأين إذا أرادت أن تنادي أبناءها أو تعمل أي شيء، وكذلك الأولاد، فمن الشرفة، وما بين الشرفة والشرفة الأخرى إلا قليل من الهواء، فلو وضعت خشبة لأمكن أن يسير عليها الإنسان من هذه الشرفة، إلى تلك الشرفة، وينتقل إلى ذلك البيت، إما سارقاً أو زانياً أو لصاً أو ما شاء، والمصيبة أننا جعلنا عادات بلادنا وذوقنا العام وسكننا تحت تأثير هؤلاء الذين بأموالنا وبأنفسنا استقدمناهم ووليناهم ليخططوا لنا كيف نعيش، وكيف ننظم حياتنا، وكيف ننشئ بيوتنا.
فالقضية خطيرة، وهي تمس كل بيت وكل إنسان وكل من يخاف الله عز وجل -وهو حريص على هذه البلاد الطاهرة المقدسة التي لم يبق للتوحيد قلعة إلا هي- فإنه والله يغار ويهتم لمثل هذه الأمور، ويجِدُّ في البحث عن الحل وعن المخرج، وهو بين أيدينا؛ وعندما نعرض هذه المآسي أو هذا الواقع، فإنما نذكر بأمر مشاهد محسوس؛ لنستثير همم أهل الإيمان والغيرة أن يغيروا وأن يبدءوا بأنفسهم وبمن حولهم.
فأقول: إنهم أفسدوا حتى الذوق العام في مظاهرنا العامة، في سكننا، حتى في لغتنا وفي لهجتنا -كما ذكر الأخ الدكتور- بل إنكم لتشاهدون اللوحات، اذهبوا إلى بلد من بلادهم، وانظروا إلى اللوحات واللافتات في بلاد المسلمين، مع الأسف الشديد كأنها ثوب رقع من سبعين رقعة؛ هذه اللوحة من لغة كذا، هذه من لغة كذا، وهذه بلغة كذا، وأصبح الإنسان لو فتح محلاً صغيراً جداً لا يأتيه ولا يشتري منه إلا طبقة من العمال الذين لا يقرءون أية لغة، ومع ذلك لو وضع له عنواناً فسوف يكتبه بغير العربية، إما بالإنجليزي أو بلغة أخرى؛ لأن عبوديتهم ليست في المظهر والمخرج، لكنها في الباطن وفي المخبر، أصبحنا متأثرين بهم إلى هذا الحد.
وأدهى من ذلك أننا نستعير أسماء فجارهم -وكلهم فجار- ونضعها عناوين ولافتات في بلاد الإسلام، من أعجتبه مطربة أو مغنية أو ممثلة عاهرة داعرة، جعل اسمها عنواناً لمحله أو لشركته أو لمطعمه أو لمخبزه أو لما أشبه ذلك، فنجعل من بلادنا معرضاً للدعاية لمشاهير الكفر ومشاهير الفجار من شتى الأصناف ومن جميع البلاد كالمطربين والممثلين ولاعبي الكرة والمصارعين والرياضيين عموماً بينما في تلك البلاد رغم أنها لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا تخاف أن الله سيعذبها يوم القيامة ولا تعرف شيئاً اسمه موالاة الكفار، رغم ذلك لا يسمحون بأن يمجَّد اسم في بلدهم إلا ما كان على لغة البلد، ومن له بطولة وطنية -كما يسمونها- بخلاف ما نحن عليه للأسف الشديد.
ونحن قد تكلمنا وأشرنا، وما هي إلا إشارات إلى ما يهدد الأسرة من هذا الغزو الفكري الرهيب، ومن هذا الخطر الزاحف الداهم، سواء كان خطر ذهاب المسلمين إلى بلد الكفار أم خطر استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين، وعلى كلا الحالين يجب علينا أن نعيد النظر في أنفسنا وفي مجتمعاتنا مما يتعلق بهذا الشباب المسكين.