الواقع أن المسلمين ما زالوا يقرءون القرآن؛ ولكن مما لا شك فيه أن قراءة القرآن وحدها ليست كفيلة بأن نكون أهلاً للانتفاع به، وبأن نكون أهلاً لأن نحيا به، فلا بد أن نُتْبَع القراءة والتلاوة بالفهم والتدبر والتعقل وبأمور أخرى سيأتي بيانها، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تدبر القرآن -ما هو التدبر الذي هو من أعظم الشروط التي تؤهلنا للانتفاع بالقرآن؟ - قال: 'هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهذا هو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى في سورة النساء:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[النساء:٨٢] وقال الله تعالى في سورة المؤمنون: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}[المؤمنون:٦٨] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:٢٩] وقال تعالى في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الزخرف:٣] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:٢٤] '.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى:[[نزل القرآن ليتدبر وليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً]].
ثم يقول رحمه الله تعالى -والكلام ما يزال لابن القيم أثابه الله وجزاه أحسن الجزاء وأجمله-: 'فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب في نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما' هذا هو أنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده، وهو أقرب شيء إلى نجاته؛ أن يتدبر القرآن، وأن يطيل التأمل فيه، وأن يجمع الفكر على معاني آياته.
وماذا يستفيد العبد إذا تدبر وأطال التأمل وجمع الفكر على المعاني؟ هذه الأمور إذا فعلها العبد، يقول: ' فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما ' أي: مآل أهل الخير والشر، ما الذي يطلعك على ذلك؟ إنه تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته.
وماذا تفيدك إطالة التأمل مع التدبر والتعقل وجمع الفكر؟ يقول: ' وتتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة -ومعنى (تتل في يده) تلقى في يده توضع في يده- هذا كله بالتدبر والتعقل وجمع الفكر، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه سبحانه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة والنار، وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تُعَرِّفه ستة أشياء: تعرفه الرب المدعو إليه المدعو إلى عبادته سبحانه والإقبال إليه وما إلى ذلك مما ينبغي ألا يكون إلا لله وطريق الوصول إليه إلى رضاه وإلى جنته، وإلى رؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، وطريق الوصول إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب إذا قدم عليه فهذه ستة أمور لا بد للعبد من معرفتها، ومشاهدتها، ومطالعتها '