والجاهلية الأولى التي بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها -نعني بها جاهلية قريش والعرب- ماذا كانت نظرتهم للوجود؟ لقد كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.
وقال قائلهم:
أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ حديث خرافة يا أم عمرو
فكانوا لا يتصورون أن لهذا الوجود حكمة ولا غاية؛ إنما هي أرحام تدفع، أي:"تنتج المواليد"، ثم أرض تبلع في النهاية؛ ولذلك قالوا:{أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}[النازعات:١١ - ١٢] أي كيف -بعد أن نكون عظاماً نخرة- نعود إلى حياة جديدة؟! فالوجود عندهم ينتهي بهذه الحياة الدنيا فقط، والدهر -أي: مرور الأيام والليالي- هو الذي يهلك والذي يفني، ولا شيء وراء ذلك.
فهكذا كانت غفلتهم، والعمى الذي ضربه الله تعالى على قلوبهم.
ومع ذلك فالفطرة تلح عليهم إلحاحاً شديداً، وقد كان منهم الشعراء وهم أكثر إرهافاً وإحساساً؛ فالشعراء كانوا يتخيلون أنه لا يمكن أن يكون وراء هذا العالم إلا شيء آخر، وكذلك الخطباء وأمثالهم من أصحاب الإرهاف في الحس، يقولون: لا بد أن وراء هذا العالم عالماً آخر، ولا بد أن لهذا الوجود حكمة وغاية أكثر من مجرد أنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وهذا موجود في أشعارهم.
ولما أرسل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم؛ جاءت الهداية الكبرى من عند الله تبارك وتعالى، وقضت على ما شاء الله تعالى أن تقضي عليه من الضلال والحيرة والاضطراب الذي كان يسود الأرض أو معظمها من أجل: لماذا جئنا؟ ولماذا خلقنا؟ لقد كان الناس إما أن يتدينوا على باطل، كحال اليهود والنصارى وأتباعهم، أو يتيهون ويحارون ولا يدرون بمَ يتدينون، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه معروفة، فقد رفض النار التي كان يعبدها أبوه، ثم هاجر إلى العراق، فوجد راهباً هنالك وتعلم الدين عنده، وتعبد بدينه؛ ثم سلمه الراهب عند الموت إلى راهب آخر؛ ثم ذهب إلى الآخر؛ ثم إلى آخر؛ ثم بيع رقيقاً.
ثم أتى إلى المدينة -كل ذلك وهو يبحث عن الحق- فكان يشعر أن لله ديناً، وأن هذا الدين حق، وهو غير ما يتدين به، وغير ما يسمع، وغير ما عند اليهود والنصارى والمجوس، حتى عرف الحق ووفقه الله تبارك وتعالى له، وأمثال سلمان رضي الله تعالى عنه قليل؛ فأكثر الناس يأكل ويشرب وينام ولا يفكر على الإطلاق، ولا يبالي بهذا السؤال وبالإجابة عليه.
لقد كانت ظاهرة البحث عن الدين الحق ومعرفة سر الوجود؛ مقتصرة على أفراد قلائل؛ لأن الناس كانوا يعيشون -إلى حد ما- في طمأنينة بما يدينون به من معتقدات، وهذه نقطة مهمة في التاريخ؛ فاليهود والنصارى، والمجوس، والبراهمة، وكل الأديان التي كان يعتنقها الناس كان لديهم اطمئنان إلى أنها هي الدين الصحيح؛ ولهذا لا يبحثون عن الحكمة من الوجود خارج هذا الدين.