وقال تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:١٧٥] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:٤١] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:٤٠]{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}[المائدة:٤٤] أو {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}[البقرة:١٥٠] فهذه الآيات كلها في الخوف والرهبة والخشية.
قال: 'ومدح الله تعالى أهل الخوف وأثنى عليهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:٥٧ - ٦١] ' هذه الآيات من سورة المؤمنون آيات عظيمة ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وسياقها يبين ما جاء في تفسيرها، وأنه تفسير حق ودلالته صحيحة.
وسياق الآيات هذه في بيان المحسنين السابقين كما ذكر في آخرها:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:٦١] فالذي يسارع في الخيرات ويسابق هو في درجة الإحسان والتقوى، وأما حال الفريق الآخر فقال تعالى:{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:٥٤] وبين شعورهم ونظرتهم واعتقادهم فيما ينعم الله تبارك وتعالى به عليهم: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ}[المؤمنون:٥٥ - ٥٦] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر صنفين: صنف معرض عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وغير مؤمن به، فهو في غمرة ولهو، وعندما يرزق ويعطى يظن أنه مسارعة من الله تبارك وتعالى له بالخيرات لفضله وخيره وصلاحه.
والصنف الآخر: هم المؤمنون.
وعندما يذكر الله تبارك وتعالى أحوال أهل الكفر مقابل أحوال أهل الإيمان فإنه يذكر أعلى صفاتهم، فعندما يذكر الكفار يذكر أعلى درجاتهم في الكفر، وكذلك عندما يذكر صفات أهل الإيمان يذكر أعلى درجاتهم في الإيمان، ولا يذكر ضعاف الإيمان في هذا المقام المقابل للكفر، إنما يذكر في مقابل الكفار أهل الإيمان وما هم فيه من الفضل والسابقة والمسارعة والخير، وفي هذا دليل على أن الآيات هي في هؤلاء، ولذلك ما جاء فيها من الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في (٨/ ٢٩٩) أنه الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم، وسكت الحافظ رحمه الله تعالى ولم يشر إلى أن فيه انقطاعاً ما بين عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني وعائشة؛ ولكن التفسير صحيح قالت:{قلت يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ)) [المؤمنون:٦٠] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟}، فكان مقصودها رضي الله عنها أن هؤلاء العباد من إيمانهم وفضلهم وخيرهم إذا أتوا منكراً أو فعلوا فاحشة فإنهم يفعلونها وهم خائفون؛ لكن الأمر أجل وأعظم من ذلك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه} فهم يؤتون ويعطون ويبذلون من القربات والطاعات وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، فلسان حاله يقول: نعم صمت وصليت وحججت واعتمرت وأحسنت إلى الفقراء والمساكين، وحفظت لساني عن غيبة إخواني المسلمين، وحفظت يدي عن حقوقهم، لكني والله لا أدري أتقبل مني هذه العبادة أم لا، وربما كان في الحج من الرفث واللغو والفسوق والجدال أو الرياء ما أحبط الحج، فلربما كان في الصلاة والزكاة ما يحبطها، وربما انتفت بعض الشروط أو بعض الواجبات، أو فسدت النية فلم تقبل هذه الطاعة، فالمؤمن يعمل الطاعة وهو يخاف أن لا تقبل منه.
فهذه هي الدرجة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، لكن الواقع من كثير من الناس أنهم يعملون المعاصي، ويرتكبون المحرمات ولا توجل قلوبهم، ولا يخافون من الله، والله تعالى يقول:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}[البقرة:٢٨١] فالإنسان إذا عمل طاعةً أو معصيةً فعليه أن يتقي الله، ويشعر أنه راجع إلى الله، فإن كان ما عمله طاعةً فيخاف ألا تقبل وإن كان ما عمله معصيةً أو منكراً أو فاحشةً، فهو أحرى وأجدر أن يخاف الله، فليتب وينزجر عن معصية الله تبارك وتعالى.