[تفسير ابن كثير لآيات الحكم من سورة المائدة]
ونواصل تفسير الآيات الكريمات من سورة المائدة المتعلقة بالحكم بغير ما أنزل الله، والغرض هنا ليس تفسير الآيات، واستنباط الأحكام الفقهية منها، ولكن الغرض هو معرفة درجة الحكم بغير ما أنزل الله، وأنواعه.
والمقصود هنا هو موضوع الحكم من جهة تعلقه بالعقيدة، فقول الله تبارك وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥]، وهذه هي الآية (٤٥/ص: ١٥٨) من عمدة التفسير.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله كما اختصره الشيخ أحمد شاكر: 'وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية! '.
وهذا الكلام يتعلق بسبب النزول الثاني كما سبق، وسبب النزول الأول هو الزانيين، ولذلك عطف فقال: 'كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار! ولهذا قال هناك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً, وقال هاهنا: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضاً'.
وهذا الكلام كلام نفيس من الحافظ ابن كثير رحمه الله، فهو يجعل الآيات جميعاً في نسق واحد، وأنها نزلت في أناس معينين، لا كما ذكر بعض العلماء أن بعضها في المسلمين وبعضها في النصارى وبعضها في اليهود، أو كلها في الكفر الأصغر بدون تفصيل.
فهو يجعلها جميعاً في الكفر الأكبر، كما في حديث البراء: {في الكفار كلها} فالكفر كله أكبر بغض النظر عن فاعله.
فيقول: إن تنزيل الآية الأولى قال فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] لأن الموضوع موضوع قصة رجم الزانيين، أي: سبب النزول الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير وذكر رواياته, وأما الثاني، وهذه الآية التي فيها أحكام القصاص، والمساواة بين الأنفس وفي الأعضاء فإن تبديلها كان: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] فالموصوف واحد، لكنه وصف تارةً بأنه كافر، نظراً لأنهم عدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم.
وقد ذكرنا أن العلماء رحمهم الله جعلوا المناط المكفر هو: اصطلحوا أو بدلوا أو تكاتموا أو إلخ.
وبهذا نجد فقه السلف الصالح في عباراتهم، فواضح أن العدول عن حكم الله إلى ما اصطلح عليه الناس كفر، وهنا لا تنافي مع ذلك الكفر؛ لكن بالنظر إلى كون الحق فيه حقاً للناس، فالأول حق لله؛ لأن الزانيين متراضيان، ودليل ذلك كما جاء في الصحيحين: {فرأيت الرجل يجنأ عليها ليقيها} أي: الحجارة.
فالزنا هنا بتراض، فالحق فيه لله، لكن في قصة بني قريظة وبني النضير في الديات، حيث جاءت الذليلة تشتكي العزيزة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وقالوا: ما علمنا أبناء دين واحد، ونسب واحد، يكون دية أحدهما نصف دية الآخر، فلما كان الحق متعلق بالمخلوقين، ناسب أن يكون الوصف بالظلم، هكذا يرى الحافظ ابن كثير وهي مناسبة لطيفة.