[الغلو من أسباب الضلال]
قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
من أكبر أسباب الضلال في الأمم التي قبلنا وفي هذه الأمة، الغلو في المخلوقين والبشر، فآدم عليه السلام خلقه أعظم من خلق عيسى، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩] قالها في سورة آل عمران في معرض الرد على أهل الكتاب، لما جاء قسيس نجران والوفد الذين معه إلى المدينة، إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناظروه في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى صدر سورة آل عمران، رداً على النصارى في آي كثيرة، منها هذه الآيات.
دعوى النصارى بأن الآلهة ثلاثة، وإشراكهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك، من أسبابها المشكلة التي يعاني منها المسلمون اليوم، وهي مشكلة الغلو في الصالحين، وفي الأنبياء.
إن الغلو في أي إنسان بأن يزيد من قدره الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له، هذا من باب الضلال والشرك، فالمسيح عليه السلام، وأمه عليها السلام كانوا من بني إسرائيل -كما تعلمون- فماذا كان موقف القوم منهما، بعد أن أكرمهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما أكرم الأنبياء؟ كانوا على فئتين: أما اليهود فقالوا والعياذ بالله: إن مريم زانية! وأن هذا المسيح ابن زنا! والعياذ بالله، وهذا غلو في غاية الدناءة، أما الطرف الآخر فقالوا: إن هذا ليس بشراً، هذا إله، فرفعوه إلى أعلى؛ ولهذا رد الله تبارك وتعالى عليهم بأعظم مما رد على أي بدعة أو شبهة، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥].
هذه الآية لها مغزى، "كانا يأكلان الطعام" معناه: وجود الحاجة البشرية فيهما والفقر يظهر في أكل الطعام، فالإنسان أكثر شيء يحتاجه في حياته اليومية أن يأكل الطعام.
لذلك فإنَّ الرئيس، والحقير، والصغير، والكبير، والغني، والفقير، وكل مخلوق هو يسعى إلى الرزق لأكل الطعام، فيجد الحاجة إلى الطعام وإلى التقوت به، فمن كان في حاجة إلى أكل الطعام، لا يمكن أن يكون إلهاً أبداً، وأكثر من ذلك فالذي يأكل الطعام، تخرج منه الفضلات فهل يليق بالإله أن ينسب إليه هذا الشيء -والعياذ بالله- فلو فكَّر هؤلاء، وحكَّموا عقولهم، لكان ََََالتوحيد هو دينهم، لكن أضلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بسبب هذا الغلو.
وهؤلاء -كما تسمعون- في صوت الإنجيل، وفي مونتكارلو، وفي ساعة الإسلام، وفي الإذاعات التي تصلهم ليلاً ونهاراً، وفي كل ليلة، وفي كل وقت، وفي كل خطبة، وفي محاضرة، وفي نظرة في الكنائس، يرددون أن المسيح إنما كان إلهاً، وإنما كان بهذه المكانة، لأنه خلَّص البشرية، خلص بني الإنسان من الخطيئة.
بعض الناس يقول: ما دامت أمريكا وأوروبا وفرنسا صنعوا الطائرات والصواريخ والأقمار الفضائية وكذا، كيف ستكون عقائدهم رديئة مفتقرة؟ ما دام هناك هذا الإنتاج المادي والتكنولوجي والكمبيوتر؛ فلا بد أيضاً أن عقائدهم ودينهم وفكرهم يكون على هذا المستوى!! وهذا غير صحيح أبداً، هذا ظلم، هذا له مجال، وهذا له مجال آخر، الدين اتباع وهدى من الله عز وجل، أما الصناعة فكل إنسان يعمل أكثر، ويفكر أكثر، وينتج أكثر، يحقق فيها أكثر، أياً كان دينه، الصينيون صنعوا القنبلة الذرية، بل وعباد البقر الهنود صنعوا القنبلة الذرية، إذاً: القنبلة الذرية ليست حكراً على أصحاب الفكر الغربيين، يمكن أن المجوسي، وعابد البقر، وعابد الشجر، وعابد الحجر، وأي إنسان أن يعمل ويحقق.
الشبهة أن النصارى قالوا: آدم أكل من الشجرة فوقعت البشرية في الخطيئة، فلما أراد الله أن يخلص الإنسان من الخطيئة، ضحَّى بابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- وذبحه صلباً، فكفرت الخطايا عن البشرية.
جواب الشبهة: فلو ناقشناها بالعقل حتى بدون نقل مع أي إنسان عنده عقل لقلنا: أولاً: آدم هو الذي أخطأ، والذي أغواه بالخطيئة هو الشيطان، لو كان الذي ضحى به الله عز وجل هو ابن الشيطان، فلن يكون هذا من العدل، لكن يقتل الذي أغواه وهو الشيطان، فهم يدعون أنه لم يقتل الشيطان الذي أغواه ولا ابن الذي أغواه، وإنما قتل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابنه الوحيد للتكفير عن الخطيئة، فلماذا؟ ومن يقبل هذا الكلام؟ الأمر الثاني: أن الله ليس بعاجز أن يغفر الخطيئة، فالله يقول: يا عبدي! قد غفرت لك، أما أن يضحي بابنه فهذا عجيب! فمثلاً واحد أخطأ عليك -ولله المثل الأعلى- هل تذبح ولدك من أجل أن تغفر له، اعف عنه وسامحه وانتهت الإشكالية، لكن كيف يقبل العقل هذا؟ أما أعداؤه اليهود الذين قالوا: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:١٨١] وقالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:٦٤].
فاليهود قالوا: إنه ابن زنا، وأنتم تقولون أيها النصارى: إنه ابن الله، فصلبوه وذبحوه، بكل راحة وسهولة، فكيف يكون هذا ابن الله؟ تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ما قدروا الله حق قدره، وما عظموه حق تعظيمه، فأي عاقل يسمع كلام النصارى هؤلاء لا يمكن أن يصدقه.
لكن المصيبة ليست في النصارى، بل المصيبة أن هذه الأمة غلت في عباد الله الصالحين، في أوليائها، وصلحائها، وأنبيائها، كما غلا أولئك، فهناك من يدعي لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يتصرف في هذا الكون، وأن روحه تدور في كل مكان، ومن يقول: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجله خلق الكون، وأنه يعلم الغيب كله، وكل شيء، حتى الخلق استأثر به، وأن على الإنسان أن يستغفره، وأن يطلبه في أي مكان، وهكذا.
حتى إن بعضهم، أو من غير هذه الأمة، جعل العبادة لغير الله، فتجده يستغيث بغير الله، ويدعو غير الله، ويقول: إن الله أعطى هؤلاء الناس التصرف في الكون، وأن هؤلاء أولياء، ولهم كرامات، وهم أحياء في قبورهم، فمن أتاهم إلى قبورهم، ودعاهم وذهب إلى الصلاة عندهم فهو كذا وكذا، مثلما غلا النصارى في عيسى، لكن هؤلاء قالوا: ابن الله، وهؤلاء قالوا: نبي الله، فالفرق أن كلمة ابن منهية عند المسلمين.
ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} قولوا: عبد الله ورسوله فقط.
الرسول لا يرضى أن يأتي فيجاهد الناس هذا الجهاد الطويل، ليترك الناس الشرك، ثم يأتي هؤلاء الناس ليدعوه هو، وهو الذي جاء لمحاربة الشرك، فيدعوه ليشرك بينه وبين الله، فلا يرضى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك أبداً، ولا يرضى بذلك أي أحد من عباد الله الصالحين، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:٥٧].
فالمدعوون والمعبودون من الأولياء الصالحين هم أنفسهم يبتغون إلى الله الوسيلة، وهم أنفسهم يدعون الله، ونحن لا ندري ما حالهم عند الله، إلا من كان نبياً، أو من شهد له النبي بأنه من أهل الجنة، وغير ذلك لا ندري ما حاله عند الله، هو خائف من عذاب الله، ويرجو رحمته، فكيف يعبد هؤلاء من دون الله؟ نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبنا ويجنب المسلمين -جميعاً- طرائق أهل الكتاب وسنن أهل الكتاب، ويجعلنا من المؤمنين الموحدين، إنه سميع مجيب.