[فساد القلب بالحسد]
والذين قالوا: إن الحسد هو أساس فساد الجوارح من القلب والأعضاء جميعاً لم يذهبوا بعيداً، فهو إما أن يكون ناشئاً عن القوة الغضبية لأنه نوع منها، لكنه يتجه اتجاهاً آخر -نسأل الله العفو والعافية- يتجه إلى الإنكار على المنعم وعلى المتفضل تبارك وتعالى، الجواد الكريم الذي أعطى كل نفس مخلوقة كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:٢٠] فهو الذي يعطي من يحب ومن لا يحب، يعطي الكافرين ويعطي المؤمنين، فالحاسد يتجه حقيقة إلى الاعتراض على الله -تبارك وتعالى- لماذا؟ لأن فيه القوة الغضبية التي جعلته يكره هذا الرجل المحسود وينفر منه ثم زادت حتى أدت به إلى الوصول إلى الاعتراض على من أعطاه ومن منّ وتفضل عليه، فالمقصود أن هذا ناشئ عن القوة الغضبية أيضاً.
ولهذا كان من أدلتهم على ذلك أن أول ذنب عصي الله تبارك وتعالى به، ونشأ عنه الكفر والفساد في الدنيا كلها من بني آدم هو الحسد، لأن أصل وقوع الفتنة والشرك والكفر والفواحش والبغي والعدوان في الدنيا هو من إبليس اللعين، وما الذي دفعه إلى ذلك الحسد؟ دفعه إلى ذلك أمر الله تبارك وتعالى الملائكة بأن تسجد لهذا المخلوق آدم عليه السلام {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:٦١] {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] حسده ولم يقبل أمر الله تبارك وتعالى في أن يسجد له كسائر الملائكة الكرام الذين استجابوا لأمر الله ولم يعترضوا عليه، وهكذا يجب على العبد دائماً ألا يعترض على أوامر الله فينشأ من ذلك الحسد والإباء والاستكبار {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤] ثم بعد ذلك الكفر، فالحسد جعله الله تبارك وتعالى سبباً لوقوع الكفر والفواحش والمصائب والبلايا في هذه الدنيا نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من همز الشيطان ونفخه ونفثه وشره كله.
إذاً: هذه قضية الحسد، ويجب على الإنسان أن يطهر قلبه من الحسد والغش والغل لإخوانه المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان، وأن يدعو الله تبارك وتعالى ألا يجعل في قلبه غلاً للذين آمنوا، كما وصف الله تبارك وتعالى عباده الصالحين.
وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الرجل الذي خرج إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلسه الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ومعه أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، ولحيته تقطر من أثر الوضوء، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة} وانظروا إلى هذا الوصف العظيم، ما معنى من أهل الجنة؟! وهل هي كلمة عادية؟ أي من الفائزين، من الذين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، أي: أن هذا الرجل ما بينه وبين التمتع بنعيم الجنة -التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- إلا أن يموت فقط، فتعجب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وثلاث مرات يخرج ذلك الرجل والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيه هذا القول، فحرص الصحابة لمعرفة سبب هذا الفوز، وكان أكثر حرصهم على الخير مثل حرص أحدنا اليوم على الدنيا، فحرص على ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها.
فذهب يستطلع الخبر ويخبر بعد ذلك بقية الصحابة، فذهب إليه وسلم عليه وقال: يا أخي، إني لاحيت أبي -أي: خاصمت أبي- فحلفت ألا أبيت عنده ثلاثاً -أي: ثلاث ليال- فأريد أن تؤويني عندك، فآواه عنده، وما غرضه إلا أن ينظر لعمله، يقول: عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه فما وجدت له من شيء كما كنت أتوقع، إلا أنه إذا قام من الليل أو تحرك ذكر الله عز وجل، لم يجد فيه أكثر من ذلك، لم يجد فيه زيادة عبادة أو صيام أو صلاة أو ذكر.
فلما كان اليوم الثالث كدت احتقر ما عنده من عمل، فقلت له: أيها الرجل إني لم يكن بيني وبين أبي مُلاحاة، وإنما جئتك لأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيك كذا، فأحببت أن أرى عملك، فما رأيت فيك شيئاً غير ما كنت قد رأيت، قال: ما هو إلا ذاك قال: ثم وليت، فقال لي الرجل لما وليت: تعال، فرجعت، فقال: ما هو إلا ما رأيت، إلا أني لا أبيت ليلة من الليالي وفي قلبي غش أو حسد لمسلم على نعمة أنعم الله تعالى بها عليه، قال: فذلك الذي به بلغت ما بلغت، وذلك الذي لا نطيق.
سبحان الله! قلب سليم ليس فيه غش لأي مسلم، ولا حسد على نعمة أنعم الله بها عليه، من يستطيع لهذا إلا أصحاب النفوس التي سمت وعلت وزكت وعلمت أن النعم من الله، وعلمت أن الفضل كله من الله، والخزائن كلها بيديه، والخلق خلقه، وأن العبيد عبيده، وأنه يبتلي هذا بالفقر، وهذا بالغنى، ويبتلي هذا بالصحة، ويبتلي هذا بالمرض، وكلنا يجب أن نطيع أمره، ونقبل حكمه الشرعي كما نقبل حكمه الكوني القدري، فإن جعلنا من أهل الابتلاء والفقر والمرض والألم، صبرنا واحتسبنا، وإن جعلنا من أهل اليسار والغنى والمال والعافية، شكرنا واحتسبنا، فلا يطغينا هذا أو يلهينا ذاك، هذه هي سلامة القلب من ذلك كله.
فلما سلم قلب هذا الصحابي رضي الله تعالى عنه من الشرك والبدعة والهوى، سلم مما هو أدق من ذلك وهو الغش للمسلمين أو الحسد لهم، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من غش فليس منا} وفي الرواية الأخرى يقول: {من غشنا فليس منا} لأن المؤمن لا يغش ولا يحسد أخاه.
فمن صفة أهل الكتاب التي جعلتهم يكفرون بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته الحسد، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى عنهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] وقال في الآيات الأخرى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:١٠٩]، وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف حسدنا اليهود على رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه بعث من العرب، وحسدونا على القبلة، ويوم الجمعة، وعلى أن وفقنا الله له ولم يعرفوه، وحسدونا حتى على كلمة (آمين)، وما من شيء في ديننا إلا وحسدنا عليه اليهود والنصارى وأشباههم، ونتيجة هذا الحسد استكبروا وأبوا أن يذعنوا للحق، ورفضوا الإيمان بهذا الدين العظيم.
والمؤمن لا يحسد أحداً من إخوانه المسلمين أبداً، بل المؤمن لو رأى أهل الكفر يتنعمون ويتلذذون ويعبثون بالأموال كما يشاءون يعلم أن ذلك ابتلاء لهم وأنه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:١٩٧] فلا تقلبهم في البلاد، ولا يغره تقلبهم في النعم وهم كفار، فكيف تحسد إخوانك المسلمين المؤمنين؟!