[المعصية سبب للهوان على الله]
يقول أبو سلمان الداراني حكمةً عظيمةً من حكمه, وما أكثر حكمه وحكم أمثاله! يقول: 'إنما عصى الله -عز وجل- من عصاه لهوانهم عليه, ولو كَرُمُوا عليه لَحَجَزَهُمْ عن معاصيه'.
أي: عندما نرى أحداً يقترف محرماً أو ينتهك حرمات الله وينغمس في الشهوات, فإننا نعلم أنه من هوانه على الله أوقعه في ذلك كائناً من كان؛ لأنه لا يساوي عند الله -عز وجل- أن يمنعه, فلذلك هانوا عليه فتركهم ووكلهم إلى أنفسهم, فرتعوا في الحرام ووقعوا في الشهوات التي حرمها الله -تبارك وتعالى- أما من كرموا على الله, فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمنعهم ويحجزهم ويحميهم فلا يقعون فيها.
ومن أعظم الأمثلة الدالة على صدق هذا الكلام ما ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن عن الذي أُتيحت له كل الأسباب, ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجزه ومنعه وعصمه, وهو يوسف عليه السلام، يقول الله تبارك وتعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:٢٣]، هذا في منتهى الشباب وغريب لا يعرفه أحد, وعادة الغريب أنه يكون أدعى إلى أن يفعل ما يشاء وأكثر ممن يكون بين قومه وأهله وذويه, فقد يقولون له: لم فعلت يا فلان كذا؟! وليس هو الذي طلب, بل هي التي راودته كما قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:٢٦] وهي التي هو في بيتها، تملكه وتملك البيت, فهي سيدة البيت, بل هي سيدة البلد؛ لأنها امرأة العزيز, والعزيز هو ملك مصر، فهي التي راودته، وهي التي تملكه, وهو في منتهى الشباب والطاقة وفورة الشهوة, وهي في منتهى الجمال والفتنة والإغراء, ولا أحد يدري بذلك أبداً، ثم إنها قد عملت الوسائل التي لا محيص منها عن الشهوة؛ غلقت الأبواب, فلم يبق هنالك مجال أن يقول: أَخرج أو أُفِرُّ أو أَذْهَب, وقالت: هيت لك, إما بمعنى تهيأت لك أو بمعنى هيهات لك أن تفر، أو ألا تفعل؛ فكل داعٍ من دواعي الوقوع في الفاحشة كان متوفراً, ولم يبقَ هناك أيُّ ملاذ أو ملجأ لأي إنسان إلا من عصمه الله فحجزه {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤].
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا علم أن عبداً من عباده صادقٌ تقيٌ برٌ, فإنه يحجزه ويمنعه, فلكرمه على الله لا يفعل, وكان يوسف عليه السلام كذلك, كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام}.
وصلى الله وسلم على أولئك الأنبياء الذين من كرمهم على الله كانت لهم السير المعطرة الطيبة الزاكية, وكانوا يحجزون ويمنعون عن المعاصي؛ لأنهم كرماء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين لا يساوون عند الله جناح بعوضة, فكما يشاءون؛ الشهوات متيسرة, والفساد مهيأ, فيفعل ما يشاء, فهو موكول إلى نفسه؛ لأنه هان على الله، كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩] فإن فكَّر أو تكلم أو كتب أو جاء أو ذهب فيفعل ويتكلم في كل شيء ويخوض في كل شيء إلا نفسه.
يا مسكين! أما علمت أن أمامك موتاً، وأمامك قبراً، وأمامك آخرةً، وأمامك صراطاً وحساباً وجنةً وناراً، لكنه لا يفكر في هذه الأشياء بل يفكر في فلان وفي علان, وفي القضية الفلانية وفي الموضوع الفلاني, بل ربما يدعو بقلمه إلى ما حرم الله.
يقول: تحرير المرأة! والمرأة مسكينة! والمرأة مظلومة! والمرأة مضطهدة! فكر في نفسك يا مسكين! أنت المسكين المحروم، وليس المرأة هي المحرومة, أنت محروم من طاعة الله، وأنت محروم من قراءة القرآن, وأنت محروم من عبادة الله، وأنت محروم من الجلوس مع أولياء الله، وتقول: المرأة محرومة ومظلومة! وصدق الله إذ يقول: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩]، فترك الأمر الذي أمامه من طريق مخوف مفزع والذي هو واقع فيه, فلم يُفكر فيه، لم يحجزه ربه, لأنه هان عليه, فلما هان عليه, تركه يفعل ما يشاء.
ولهذا علينا أن نُقِّدر نعمة الله أن هدانا للإيمان، فإذا كنت ممن يتقي الله ويطيع الله، ولا يغفل عن ذكر الله ولا عن الآخرة, فاحمد ربك؛ لأنك كريم على الله, فإذا دعتك نفسك إلى معصية أو هيئت لك معصيةٌ من المعاصي.
فكففت عنها, فاحمد ربك لأنه لا يمنع ولا يحجز ولا يصرف عن السوء والفحشاء إلا من كان كريماً عليه وحبيباً لديه, فاحمد الله على هذه المنزلة ولا تسقط من عينه.