[التوبة والمغفرة بين المعتزلة والخوارج وأهل السنة]
فلما علم قدامة ومن معه أنهم ارتكبوا حراماً، وانكشفت لهم الشبهة، قالوا: الخمر كبيرة، ولن يغفرها الله، فأيسوا من التوبة والرحمة، لأنهم تصوروا الأمر بهذه الفظاعة، والبشاعة، والمؤمن وسط بين الحالين، فلا يستهين بالمعاصي والذنوب، ولا يقنط من رحمه الله تبارك وتعالى، ولهذا لما ندموا ووصل بهم الحال إلى أن يئسوا من التوبة قال: ' [[فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذي الطول}[غافر:١ - ٣] ما أدري أيُّ ذنبيك أعظم، استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً]] '.
فكتب له هذه الآيات من صدر سورة غافر، التي بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها هذه الثلاث الصفات، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ وهناك فرق بين معنى غافر الذنب ومعنى قابل التوب، فغافر الذنب: هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر الذنب لمن يشاء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:٤٨].
فمن لقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مذنب، ولم يتب فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر لمن يشاء، وأما قابل التوب: فإنه يقبل توبة من تاب وأناب حتى ولو كانت من الشرك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المشركين في صدر سورة (براءة): {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}[التوبة:١١] وفي الآية الأخرى {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}[التوبة:٥].
فالتوبة تكون من جميع الذنوب، أما المغفرة فلا تكون للمشرك أبداً، فإن من مات وهو مشرك فلا يغفر الله تعالى له أبداً، وأما من مات وهو مرتكب ذنوباً من دون الشرك، فهو إلى رحمة الله ومشيئته: إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، كما هو فهم أهل السنة والجماعة، أما المعتزلة والخوارج فإنهم قالوا -حتى يُخَرِّجوا الآية على أصلهم الفاسد-: إنما يغفر الذنوب لمن تاب فَيُرَدُّ عليهم، ويقال: إن الله تعالى وصف نفسه بوصفين مختلفين: غافر الذنب وقابل التوب، فكيف يكون غافراً فقط لمن تاب؟! وهذه الثلاثة الأوصاف لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو يغفر الذنب لمن يشاء مالم يك مشركاً، ويقبل التوبة من كل من تاب من أي ذنب.
وهو شديد العقاب؛ حتى لا يقول أحد من الناس:(إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غافر الذنب وقابل التوب، وبناءً على ذلك سأفعل ما أشاء) وهذا من فقه عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كتب بهذه الآية إلى قدامة، ولو أنهم في البداية تذكروا أن الله شديد العقاب، وأنه قد حرم الخمر وسيعاقبهم بها لما شربوها واستحلوها، ولو أنهم في النهاية علموا أنه غافر الذنب وقابل التوب لما قنطوا ويئسوا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.