[الأقوال في سبب نزول هذه الآيات]
ثم يأتي ابن كثير رحمه الله بالآيات فيقول: 'قيل: نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه'.
وهذه هي التي سيوردها رحمه الله تعالى فيما بعد، ويقول: سبب آخر في نزول هذه الآية، فهذا السبب قد ورد، ومع ذلك قال الحافظ رحمه الله: 'والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله'.
وهذه العبارة مهمة جداً، ويجب أن نتأمل معناها؛ لأنها هي مناط الحكم في هذه المسألة، فالحكم مبني على هذا المصطلح نفسه، وعلى هذه العبارة، وهذا الفهم.
قال: 'وكانوا قد بدِّلوا كتاب الله الذي بأيديهم'.
فمناط الحكم هو التبديل: تبديل دين الله، وتبديل كتابه، وتبديل شرعه.
قال: 'الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه'.
فهذا أمر هام متعلق بمناط الحكم، وهو التبديل.
ثم قال: 'واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين'.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل في التوراة الرجم، وقد قال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:٤٣] فلما كثر الزنا فيهم وشاع وانتشر بينهم، اصطلحوا فيما بينهم أنهم لا يقيمونه إلا على الضعيف، ويتركون إقامته على الشريف.
ولم يقف الانحدار عند هذا الحد، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:٧٨ - ٧٩] فلم يقم فيهم من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردهم إلى الأصل، بل جاء فيهم من يقول: إن هذا لا يجوز، كيف نرجم الضعيف ونترك الشريف؟! فاتفقوا على حل آخر، ورجعوا إليه باسم الإصلاح، فقالوا: ليس من العدل أن نقيمه على الضعفاء فقط، ولكن العدل أننا نترك حتى الضعفاء، ولا نقيم عليهم حد الرجم، حتى نعدل بينهم وبين الأشراف، فقال بعضهم: هل نحلل الزنا؟! قالوا: لا، حتى لا نخالف كتاب الله! وهذا هو فقه اليهود والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهو فقه أعوج، فقالوا: علينا أن نعدله بأن نتفق على شيء وسط، يناسب العصر والناس والمجتمع من جهة.
ومن جهة ثانية أن فيه موافقة لحكم الله، لأننا لو أمسكنا الدين بقوة لأصبحنا متطرفين وأصوليين، وإن تركناه بالكلية فإنه لا يصلح، فقالوا: نبتغي بين ذلك سبيلاً، ونقول: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فهذا مثل ما قاله المنافقون، وكل من انحرف عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا: إذاً الحل نحممهم -والتحميم: التسويد بالفحم- ونحملهم على حمارين، ونطوف بهما في الأسواق، ونقلبهم، فنجعل ظهر كل واحد إلى الثاني، فنشهر بهما.
قال: 'فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك'.
فهم يتحايلون على الله، مع أنهم لم يؤمنوا بهذا النبي، ولم يتبعوه في كل ما يقول.
قال: 'وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذاك'.
أي قولوا: لدينا أحكام نحتكم إليها، ولا نريدك ولا نريد حكمك، فهكذا كانوا يقولون!! ثم قال: 'وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: {إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا -بعدما قالوا ذلك الكلام- فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم: ماذا ورد في التوراة عندكم في شأنهم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون}.
فأولاً: مخالفة حكم الله، ثم الكذب على الله، ودائماً كل من اتبع هواه وخالف أمر الله، واتبع شهوته، وآثر الدنيا على الآخرة، فلا بد أن يُؤدي به ذلك إلى أن يقول على الله بغير علم، حتى لو كان يعرف الآيات مثل ما يحفظ الناس سورة الفاتحة، فيحفظ الآيات ويعرف الحكم لكنه متبع لهواه، مؤثر لدنياه، فلا بد أن يقول على الله بغير علم.
وهذه من عقوبات الذنوب -نعوذ بالله- حيث أنه يبدأ بذنب، فيبدأ بأكل الربا وهو خائف من الذنب، وبعد فترة يقول: من قال لكم إنه حرام، والله قد أحله؟ فيكذب على الله ويفتري عليه، ويقول على الله بغير علم، وهكذا دائماً، نعوذ بالله.
فالآن انتقلت اليهود من حالة مخالفة حكم الله إلى حالة القول على الله بغير علم.
قالوا: الذي عندنا في التوراة أنهم يجلدون ويفضحون، فأكذبهم الله عز وجل: {قال عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه}.
وهذا هو الشاهد من بني إسرائيل، الذي شهد عليهم، والذي فضحهم وبين كذبهم، وهو عالم بني إسرائيل، وعلماؤهم الذين عرفوا الحق كثير لكنه رئيسهم ومقدمهم رضي الله تعالى عنه.
قال: {كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم}.
وهذا فيه دلالة على أن المطلع على أحوال أعداء الله أعرف ممن لم يطلع عليهم، فقالوا: {صدق يا محمد! فيها آية الرجم} أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ له: {قال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:٩٣] فجاءوا، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: -وهو ابن صوريا - اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا}.
فالسبب والمناط الآخر لخروجهم من الدين، هو قوله: {ولكنا نتكاتمه بيننا}.
ولذلك قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:١٥٩] إلى آخر ما جاء من وعيد من كتم وسكت عن الحق.
قال: {فأمر بهما فرجما}.
وهذه رواية أخرى من روايات مسلم وهي صحيحة.