ولشهرة هؤلاء أخذنا بعض النماذج الأخرى, ومنهم عبد الله بن المبارك -رضي الله تعالى عنه- الذي كان مجاهداً، وكان عابداً, جمع بين الجهاد وبين العبادة وبين الكرم, وسيرته عجيبة.
عبد الله بن المبارك -رضي الله تعالى عنه- كان في أصله من أولاد الملوك, وكان أجداده من ملوك فارس، وكانت أمه تركية, وعنده عجائب في الورع وفي الزهد.
يقول أحد تلاميذه: 'رأيت في منزل ابن المبارك حماماً -كما نرى نحن الآن في البيوت من الحمام الذي يربى في البيوت- فكأنه استغرب أنَّ هذا الحمام يتكاثر ولا أحد يأخذه, فقال عبد الله بن المبارك: قد كنا ننتفع بفراخ هذا الحمام, فنأخذها ونذبح ونطعم أبناءنا أو ضيوفنا, قال: فلم نعد ننتفع بها اليوم, قال: لماذا؟ قال: اختلطت بها حمام غيرها, فتزاوجت بها, فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها من أجل ذلك'.
سبحان الله! بخلاف هذا الزمان! فالواحد لو قُدِّر له أن يلتهم ما عند الجيران وما عند الزملاء وما عند الموظفين لأكل؛ مع أن المسألة ليست أن تشبع أو أن تكنز المال! فكِّر! فأمامك حساب، فهذه شدة حذرهم وخوفهم رضي الله تعالى عنهم.
وقد بلغ من شدة خوفه وتفكره مبلغاً عظيماً, قال سويد بن سعيد: رأيت عبد الله بن المبارك بـ مكة أتى زمزم فاستقى عنها ثم استقبل الكعبة، فقال: 'اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ماء زمزم لما شرب له} وهأنا أشربه لعطش يوم القيامة'، فحين ترى ما يفكرون فيه، وهم يعملون الطاعات، إذ هو في عبادة وهو في حج، فإنك ترى فيهم مصداق قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:٦٠].
قال نعيم بن حماد: 'كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق -والمقصود أي حديث في باب الرقاق- فكأنَّه بقرة منحورة من البكاء, لا يجرؤ أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء'.