[نور الدين وموقفه من المكوس والعشور]
تكاثر الصليبيون وتكاثرت الأمم الغربية من كل مكان تمول هذا العدوان على العالم الإسلامي، وكان نور الدين محمود يعيش في قلة -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- من العدد والمال.
ماذا يصنع نور الدين؟ يحتاج إلى المال، والجهاد لا بد له من المال، ووجد أن من قبله كانوا يأخذون الضرائب المكوس العشور من الرعية المسلمين، ويجمعونها ليجاهدوا بها الصليبيين، والمعارك تكون خاسرة ولا يوجد نصر، وأحياناً نصر وأحياناً هزيمة، فما رضيت سيرته المتأسية بالخلفاء الراشدين هذا الأمر.
وكان يرى أنه لابد من إبطال هذه المكوس والضرائب، فأمر بإبطالها جميعاً، وكتب إلى جميع البلاد والقرى والأمصار أنه قد ألغاها إلغاءً أبدياً، وأنه يطلب من كل الخطباء في دولته من فوق منابر الجمعة أن يطلبوا من المسلمين جميعاً أن يسامحوه على ما أخذ منهم فيما مضى، وأن يستغفروا الله تعالى له من ذلك.
وكان يقوم الليل ويبكي كلما تذكر ذلك، ويقول: اللهم ارحم العشار المكاس.
ويبكي ويقنت؛ لأنه كان يأخذ العشور والمكوس من المسلمين، ولما أمر بذلك قال له قادة جيشه وأركان حربه: إن فعلت ذلك لم يبق لنا شيء نجاهد به الصليبيين.
فقال لهم: إن كان الجهاد لا يأتي إلا من هذا المال الحرام فلا نريد الجهاد.
قالوا: إنك إن لم ترد الجهاد أنت جاهدك أعداؤك.
قال: لا نجاهدهم إلا بالحلال، والله تعالى هو المستعان.
فألغى ذلك كله، فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى نصره، وبارك له في القليل الذي أعطاه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: (أسقط المكوس في بلاده، وقد ذكرته في تاريخنا الكبير مفصلاً، ومبلغه في العام: خمسمائة ألف دينار وستة وثمانون ألف دينار وأربعة وسبعون ديناراً من نقد الشام)، انظروا إلى هذه المبالغ الباهظة التي أسقطها لما علم أنها حرام، ولم يستعن بها في الجهاد، ليس لم يستعن بها على شهواته أو ملذاته؛ بل حتى في الجهاد يقول: لا نصرف في الجهاد إلا ما كان حلالاً.
ويذكر صاحب البرق الشامي أنه كتب أكثر من ألف منشور إلى الرعية من أجل هذه المسألة.