وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة:٥٤] أي: هذه الصفات لا يمنُّ الله تعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم.
إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم، والذي لا يريد أن يقدم هذه التضحيات، فلن ينال هذه الدرجة وهذا الاصطفاء وهذا الكرم وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:٢٣].
فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم، ولذلك يقول الشيخ 'وقوله:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:٥٤] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:٥٤] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه قال: ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً، وكان داود عليه السلام يقول في دعائه: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{أتاني ربي عز وجل -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد، قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك} وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: {اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب} وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو: {اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر عيني بعبادتك} فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هَمٌ، إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه -أي: أهل هذه الدرجة همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تعالى- قال: قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور' وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عملك كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط.
إذاً: فتغييب جانب الخوف قد يغير الرجاء، وقد يضعف الرجاء، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله}.
قال: 'والعمل على المحبة لا يدخله الفتور' وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه، وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتنشغل وتسهر، واليوم الثاني إذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض وهكذا، فالعمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تعالى؛ لأن العبد يعمله من محبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص عند الله تعالى.
قال: 'ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطَّالون من بطالتهم، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
قال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمَّر على الأمراء -الله تعالى يجعله أميراً مؤمراً على الأمراء- زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك.
والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه' لاحظ كيف أنه يحبهم ويحبونه!