[أعمال القلوب يبنى عليها التفاوت بين الناس]
ثم أن قال رحمه الله: (وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل).
وهذه حقيقة عظمى من حقائق الإيمان؛ ولهذا يجب أن نعلم جميعاً أن أعمال القلوب هي الأفضل وهي الأساس، وهي أصل كل الأعمال، أما أعمال الجوارح فقد يشترك فيها الناس، ومع ذلك فهم متفاوتون في أعمال القلوب.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك: الصلاة.
حيث يقف الناس جميعاً خلف الإمام، ولكن بين هذا وهذا في الأجر والمنزلة والدرجة والثواب الشيء الكثير والبون الشاسع جداً؛ وذلك بأعمال القلوب، فأما أعمال الجوارح فقد يكونوا كرجل واحد في متابعة الإمام، لكن تجد هذا يصلي بخشوع وحضور قلب واطمئنان، وتأمل وتدبر، وتفكر في آيات الله تبارك وتعالى المقروءة، فهذا حاله غير حال ذلك الذي يصلي بلا حضور قلب وبلا خشوع واطمئنان، بل ربما كان أقل بكثير جداً.
وكذلك الحال في الجهاد، فليس الجهاد بكثرة الإبلاء في العدو، وكثرة القتل فيهم، ولكنه بالإخلاص وبصدق النية مع الله سبحانه وتعالى، وإن كان حال المرء كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة) لا يبالي في أي موقع كان.
وكذلك الصدقة والنفقة، فليست العبرة بكثرتها ولا بمظهرها، ولكنها بحقيقة إيمان صحابها وصدق يقينه، وإخلاصه وتجرده عن الدنيا، وبذله ما أعطاه الله وجعله مستخلفاً فيه في سبيل الله، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم ألف درهم) فدرهم يتصدق به الإنسان وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، وقد لا يكون لديه فضل مال غيره خير من ألف درهم، بل خير من آلاف الآلف إذا كانت تعطى من غير نية صادقة، خالصة لله، ومن غير هذه الصفات التي اجتمعت في الأول، والناس في ذلك متفاوتون على مراتب ودرجات.
فأعمال القلوب كما قال رحمه الله: (هذا قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره).
ثم قال: (وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره).
وهذا أمر آخر فالقضية إذاً ليست قضية ذنوب أو معاصٍ ارتكبت، أو حرمات انتهكت -هذه تقع- لكن وقوعها من شخص غير وقوعها من آخر.
وهذا أيضاً أمرٌ آخر، ومقامٌ آخر من المقامات التي نعرف بها اختلاف الناس في ذلك؛ فبعض الناس -كما أشرنا- ذنبه قد يكون سبباً لهدايته، ويكون حال التائب من هذا الذنب أفضل من حال ذلك المطيع المستقيم الذي قد يدل ويعجب بطاعته -هذه حالة-.
الحالة الأخرى: أن وقوع الذنب من هذا غير وقوعه من ذاك، وهذا كثيراً ما يغفل عنه بعض الناس، فإذا رأى أن أحداً من أئمة هذا الدين -قد يكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من دونهم- يقول: أليس من الصحابة من فعل كذا وكذا، فأنا أفعل مثله، ونسي هذا المسكين أن البحر العظيم المتلاطم من الحسنات مهما ألقي فيه من النجاسات لا تضره، وأما ذلك المسكين الذي ليس لديه إلا إناء صغير، فإن أقل قذارة أو نجاسة تنجسه كله، فقارن حاله بحال غيره في المعصية فقط.
قال بعض الصحابة: إن الربا نوع واحد، وبعضهم يقول: إن بعض العلماء أباح الغناء، واستماع الصوت مثلاً، وقال الآخر: إن بعض العلماء أجاز النبيذ أو شيئاً من ذلك، فهذه رخص العلماء التي هي مخالفة للدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: من تتبع رخص العلماء تزندق؛ لأنه يجمع الرخص من هنا ومن هنا فيخرج وقد أصبح زنديقاً والعياذ بالله.
فلو اتبع كل واحد من الناس ما ترخص فيه بعض الأكابر والفضلاء لما بقي له من الدين شيء، فكيف يقرن الضعيف المسكين -الذي لا فضل له ولا جهاد ولا سابقة- نفسه بعمل أولئك؟ بل حتى بين الأكابر والفضلاء أنفسهم يكون التفاوت بينهم، والعقوبة والمؤاخذة بحسب ودرجاتهم وفضلهم.