للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نشأة القوانين الوضعية]

والمقصود أن القوانين في الياسق -كما سنستعرض بعضها إن شاء الله من كلام الحافظ ابن كثير - كانت في هذا الجانب، مع أنه أيضاً فيها أحكام جزائية أو جنائية.

يقول الشيخ: أحمد شاكر: 'وقد حررها المقريزي في الخطط "٣/ ٣٥٧ - ٣٥٨" قال: تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة -والمقريزي هو من أوفى من شرح وفصل موضوع الياسق وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر هنا الكلام المهم منه- ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، وقد ذكر كما ذكر صاحب خزانة الأدب قال:

فكيف نسوس الناس والناس دوننا إذا نحن فيهم سوقة نتنصب

فـ المقريزي يريد أن يرجع إلى الأصل اللغوي، لأنه حصل لبس كبير عند كثير من المؤرخين في أصل الكلمة، وهذا البيت ينسب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، والمعنى: بينما كنا نسوس الناس أي: نقودهم ونرعاهم ونوجههم، -فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، ثم رسمت بأنها القانون لموضوع رعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال- ولا شك بأنها مفاسد وليست مصالح لكن من وجهة نظر أهلها، يقول المقريزي - والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها'.

فهذه مقدمة عن السياسة وهي كلمة موجودة ومستخدمة بمعنى الوسائل والأساليب أو الأنظمة التي يتخذها الحكام والولاة لضبط الأمور.

والسبب في احتياج الناس إليها هو تقصير القضاة والفقهاء، حيث ضيّق بعضهم مفهوم الحدود، فقصروا الحدود في الحدود المعروفة كشرب الخمر، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد البغي وما عدا ذلك ليست حدوداً، وكان الأمراء ورؤساء الشُرط، والمكلفون بضبط الأمن في الولايات يعتبرونها من باب التعازير فلم تكن تندرح ضمن الأحكام، ولم يكن يتناولها القضاة وبعض الفقهاء المتأخرين، وإنما تركت على أساس أنها تعازير ترجع لولي الأمر، ولما صار ولاة أمر المسلمين من العجم، وكذلك الجنود، وكانوا لا يفقهون اللغة العربية أو شيئاً من الأحكام الشرعية، كان بدهياً أن يجتهدوا من عند أنفسهم، ويضعوا النظم والوسائل لضبط الأمن والأحكام التي مهدت لقبول الياسق أو الياسة.

ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن القيم في الطرق الحكمية، فجعل أن بعض الفقهاء منهم من لم يفهم حقائق الشريعة، فجعل البينة هي الشاهدين فقط، فإذا انتهك عرض إنسان أو سلب ماله في البر وأتى إلى القاضي أمره بإحضار شاهدين، ومن أين له ذلك وهو في البر، وبناءً على ذلك ضاع الحق، فأصبح الولاة لا يحيلون هذه الأمور إلى القضاة، فإذا لم يكن هناك شهود عذبوا الخصم بأي شكلٍ ما، ويأتون بشيخ قبيلته أو عشيرته ويعذبونه حتى يتبين أنه هو أو غيره، فيستخدمون وسائل كثيرة لاستخلاص الحقيقة، ويقول: لولا ذلك لما ضبط الأمر، لأنه لا أحد يجني جناية ويأخذ معه شاهدين، فبذلك تضيع الحقوق.

أما ابن القيم رحمه الله فيقول: البينة ما أبان الحق، وكشف عنه أياً كان، حتى لو كان بالقرائن، كقرائن معينة تصل إلى حدِّ البينة، لكن لما ضاق الأمر من الناحية الفقهية، ومن ناحية القضاء ولابد للناس أن تضبط أمورهم، وكان الذين يضبطون الأمور جهلة بالشرع وبمقاصده، وشروط الاجتهاد ليست متوفرة فيهم، فضلاً على أن نقول: إنهم جهلة بالفقه، فلا فقه ولا اجتهاد.

ولكن لا بد أن يضبطوا الأمر، فضبطوه بهذه الوسائل التي أخذوها من تربيتهم العسكرية، وخاصة الترك السلاجقة ثم مَن بعدهم، لأنهم قوم متربون تربية قبلية عسكرية.

والقبائل إلى اليوم لها سلوم وسوالف وأحكام ونظم تطبقها، فأخذوا هذه الأنظمة ووضعوها مع الشرع، فقالوا: هذه شريعة وهذه سياسة، فإذا أحيل إلى القاضي وحكم عليه بحد من الحدود ولو بالتعزير، قالوا: هذه شريعة.

أما إذا كان الوالي أو مدير الشرطة أو ما أشبه ذلك، قالوا: هذا قتل سياسة، أو ضرب سياسة، أو صلب سياسية، أو يعلقون أخذ أموالهم من باب السياسة، فالأمة استمرأت هذا الوضع.

ولهذا لما جاء الحكام العادلون مثل نور الدين محمود رحمه الله، وأمر بإلغاء كل سياسة تخالف الشرع، ولا يحكم في صغير أو كبير إلا بأمر القضاة، وجعل مجلساً من القضاة والفقهاء والعلماء، فكان يستشيرهم في كل ما ينزل وهم يفتونه، انتظمت الأمور فكتب إليه بعض الناس، قالوا: إن أهل الفساد والدعارة وقطاع الطريق قد أفسدوا وفعلوا وفعلوا ولا يضبط الناس إلا نوع من السياسة، فكتب إليهم نور الدين رحمه الله.

إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع للخلق ما ينفعهم وما يصلحهم وهو أعلم بمصالحهم، وقد أكمل الدين فكل شيء يخالف شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو باطل، ولم يرجع عما أمر به، وذلك يعدُّ في مناقبه، فكان إذا جاء الحاكم العادل الذي يحكِّم الشرع لم يحتج الناس إلى هذه السياسة، وإن جاء حاكم جاهل أو ظالم أو جائر أخذ يستبد كما يشاء، وإذا أراد أن يحيل أمراً أحاله إلى القضاة، وقال: هذه شريعة وهذه سياسة.

وهكذا كان الحال قبل ظهور التتار وقدومهم، وقبل ظهور كتاب أو قانون الياسق، ثم تلا ذلك مرحلة قدوم التتار، فعندما جاء التتار حصل التشابه اللفظي بين السياسة التي هي مصطلح قديم وبين الياسق، أو اليسق، فخلط الناس بينهما، والياسق الذي جاء به جنكيز خان وقومه الذين وضعوه هدفه نفس مصطلح أو مدلول السياسة الذي كان مستخدماً في السابق.

ولهذا أنكر العلماء هذا التقسيم، مثل شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وابن القيم في المدارج، وفي أكثر من موضع، قالوا: إن هذه القسمة في تقسيم الدين إلى سياسة وشريعة، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، كما قالت الصوفية: هذا محرم شريعةً جائزٌ حقيقة، وأولئك يقولون: هذا لا يجوز في الشرع، لكن يجوز أن يفعل سياسة، وكذلك تقسيم المتكلمين الدين إلى عقليات تثبت بالعقل، وسمعيات تثبت بالسمع، وغيرها من التقاسيم الباطلة.

لأن السياسة الحقيقية هي قسم من الشريعة، وليست قسيماً لها، والحقيقة هي الشريعة، والشريعة هي الحقيقة، فكل شيء خالف الشريعة فهو باطل، وإن سمي حقيقة أو سياسة.

وكذلك كل ما سمي أو قيل: إنه معقول ولكنه يخالف المنقول فهو باطل، فإن الدين الذي أنزله الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الخير كله، وفيه الكمال كله، وتنتظم به مصالح العباد كلها في الدنيا والآخرة، ولا نحتاج إلى الزيادة عليه أبداً.

إذاً فهذا التقسيم باطل، لكن كانت القسمة عرفية واصطلاحية في كتب علم الكلام، وفي واقع الناس بالنسبة للسياسة، حتى جاء التتار وجاءوا بهذا الكتاب، ومما فعلته الباطنية كما ذكر العلماء في ذمهم أنهم لا يعدون الشريعة إلا سياسة مدنية، وهؤلاء كفار خارجون عن الدين بلا ريب، فيقولون: إن الشرع ما هو إلا سياسة مدنية وضعها عقلاء مفكرون عباقرة -الأنبياء- ينظمون مصالح العباد ولا نرى الشرع إلا سياسة مدنية.