الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)
ثم ذكر الروايتين اللتين وقفنا عندهما قبل هذا، وهي قوله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:٤٨] قال: 'عن ابن عباس: {شِرْعَةً} قال: سبيلاً أو منهاجاً، قال: سنة، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وغيرهم وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد عكسه، قال: {شِرْعَةً ومنهاجاً} أي: سنةً وسبيلاً'.
ورجَّح الحافظ ابن كثير الأول فقال: 'والأول أنسب، فإن الشرعة -وهي الشريعة أيضاً- هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال: شرع فلان في كذا، أي: ابتدأ فيه، وكذا الشريعة وهي ما يُشرع فيها إلى الماء'.
أي: الشريعة في لغة العرب: هي ما يشرع فيه إلى الماء المورد الذي يشرب منه، فنقلت إلى ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الخير يرده الناس وهو هذا الدين.
قال: 'وأما المنهاج فهو: الطريق الواضح السهل'.
يقال: هذا منهاج، أي: طريق وخط سهل رحب وواضح.
فيقول: 'والسنن -في اللغة-: الطرائق'.
فناسب إذاً أن يكون المنهاج هو السنة فـ"شرعة ومنهاجاً" سبيلاً وسنة.
يقول: 'فتفسير قوله: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم'.
وهذه مسألة على كل حال الأمر فيها هين.
قال: 'إن هذا إخبار في هذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:٤٨] عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار مابعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد'.
والتنوين في قوله: (لِكُلٍّ) يسمى تنوين العوض عن كلمة محذوفة، أي: لكل أمة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فهو يقول: فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأمم قبلنا، وعن هذه الأمة، أن الله تعالى جعل لكل أمة من الأمم شرعةً ومنهاجاً، أي: سبيلاً وسنة في الفروع، لأن الأصل واحد.
فهو يقول: 'المختلفة في الأحكام -أي: في الفروع- المتفقة في التوحيد'.
أي: بالنسبة لتوحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والإيمان بأسمائه وصفاته والإيمان بالقدر والإيمان بالأنبياء والكتب واليوم الآخر وكل أمور العقيدة متفق عليها بين الرسل الكرام، وبين الأمم جميعاً.
يقول: 'كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد} كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥]-هذه هي دعوة جميع الرسل- وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] '.
وكذلك ما قصه الله تبارك وتعالى عن الرسل جميعاً، عندما يذكر الله عز وجل ما دعا إليه الرسل، وبما أجيبوا، كما في سورة الأعراف وهود والشعراء والأنبياء والمؤمنون وغيرها، حيث نجد أن كل رسول أول ما يفتتح الدعوة يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] ولهذا يجب على كل من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبدأ بما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وإن كانت مظاهر الانحراف قد تختلف، حيث أن بعض الأمم انحرفت في التوحيد، ونتج عن ذلك عبادة الصالحين، كما حدث ذلك في قوم نوح، وبعضهم ادعى الربوبية كما ادعى فرعون الربوبية.
فالخلاصة: أن مظاهر الإشراك بالله تختلف لكنها في جوهرها قضية واحدة، فهؤلاء قوم شعيب أشركوا ولكن المظهر الواضح لطغيانهم هو نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وقطع السبيل، مع أن هذا تفرع عن الشرك، وكذلك قوم لوط ارتكبوا هذه الفاحشة الموبقة وهكذا.
فنجد أن كل أمة من الأمم قد يكون مظهر الانحراف فيها يختلف في بعض نواحي المعاملات أو الاقتصاد أو النواحي المالية أو الأخلاقية، وبعض الأمم يكون الإنحراف فيها في نواحي التنسك والتعبد، فكل أمة تختلف، لكن الجوهر واحد في دعوتها، وهو أنها لم توحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا نقول: الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجب أن تكون إلى توحيد الله أولاً، ثم تركز على الجانب الذي وقع فيه الانحراف والخلل، وإن كنا نقول هذا بكل أسف، فنحن في هذا العصر قد اجتمعت علينا كل الانحرافات، فعبادة الموتى والقبور لا يكاد يخلو منها بلد في العالم الإسلامي، فلو وجهت له الجهود وحده لا ستنفذها ولا ستهلكها جميعاً.
وجانب الشرك الجديد -أيضاً- وهو شرك القوانين الوضعية واتباعها وتقديسها وتقديمها على كتاب الله عمَّ الأرض وانتشر في الأرض.
وجانب الولاء والبراء من موالاة الكافرين واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، وهكذا.
فالواجب الآن كبير؛ لكن بحسب الدول والبيئات والمناطق والمدن، وذلك أن الإنسان يعتبر التوحيد عنده هو الأساس، ولكن يركز على مظاهر الانحراف الموجود في بيئته التي يعيش فيها، كما كان الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم يفعلون.
فالتوحيد هو كل شيء، لكن مع التوحيد تعالج الظاهرة الموجودة، أي إلى جانب قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] يذكرهم بما يفعلون، ولذلك فتنة عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:١٢٨] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:١٢٩] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:١٣٠] حيث أن عاداً استكبروا في الأرض، وقالوا: من أشد منا قوة، فهنا أنت تخاطب وتعالج جانباً معيناً موجوداً في هذه الأمة، لكن أمة أخرى كقوم لوط كان ذنبهم ومصيبتهم هي فعل الفاحشة، فخاطبهم باستقباحها: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف:٨٠ - ٨١] ولهذا قال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٨٠] فخصهم بهذا، وأن هذه جريمة ما سُبقتم إليها، وهو بلا شك دعاهم إلى التوحيد، فكل الرسل هدفهم الأساس هو التوحيد؛ لكن مع الدعوة إلى التوحيد يجب أن نعالج أنواع الانحراف، فالتركيز يكون على جانب الانحراف عند الناس، فإذا كان الأمر أنها انحرفت في جميع الجوانب فلتعالج كلها، والله المستعان.
قال: 'وأما الشرائع -أي: الأوامر والنواهي- فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في الشريعة حراماً ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس'.
مثل قوله تعالى: {وعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} [الأنعام:١٤٦] إلخ، فكان حراماً في شريعة اليهود ثم نسخ.
قال: ' وبالعكس وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة: قال قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:٤٨] يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه '.
فاليهود لما بعث الله فيهم عيسى عليه السلام، قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:٥٠] فبعضهم قالوا: آمنا بالله وصدقنا رسول الله واتبعناه، فما أحل استحللناه، وقال بعضهم: لا، هذا خلاف ما في التوراة فكفروا به، فالنسخ من الامتحان والابتلاء، فلما بعث الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء بهذه الشريعة حدث من اليهود والنصارى مثل هذا الكفر، وأنكروا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموراً في الشرائع كما أنكروا عليه أموراً في الأصول كالتوحيد والإيمان بالله واليوم باليوم الآخر.
ومن الأحكام التي أمرنا أن نخالف فيها أهل الكتاب، وهي في الفروع وليس في الأصول هو: مخالفة المجوس في اللحية، فالأصل في اليهود والنصارى أنهم لا يحلقون اللحى، كما في صور كل المفكرين والكتاب والزعماء والقادة الغربيين إلى القرن التاسع عشر، وإنما شاع هذا وانتشر في الجيوش، فقالوا: العسكري لا بد أن يحلق لحيته، فجاءت إلى المسلمين، وكان المسلمون لا يعرفون هذا إلا من تشبه بالمجوس أو بأشباههم.
وكذلك مثل القبلة، فهي من أعظم ما خالفنا فيه اليهود، ونسخ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شريعة أهل الكتاب وجاء بها، والآيات التي تحدثت عن تحويل القبلة موجودة في سورة البقرة، وكذلك الصبغ، والصلاة بالنعال، والسحور بالنسبة للصيام، وصيام يوم عاشوراء مع تاسوعاء، ومعاشرة الحائض، وكذلك يوم الجمعة -هدانا الله لها وضلوا فيها، وإن كانت هذه قد تكون عقوبة لهم- والأذان، وأحلت لنا الغنائم.
إذاً: أمور كثيرة خالفناهم فيها، فهي إما أن تكون منسوخة، أو أنها كانت في شرائعهم فتدخل في النسخ؛ لأنها تغيير عما كانوا عليه من الحظر إلى الإباحة، أو أنها تغيير في النوعية، أو أن يكون مما شرع الله لنا من التوسعة تكرماً وتفضلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وكان من قبلنا لا يصلون إلا في البيع والكنائس، فتفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذه الأمة، فجعل لنا الأرض مسجداً وطهوراً: {فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة رحمه الله: [[ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره هو: التوحيد -لاتفاقهم عليه