[أهل الذمة في عهد الراضي بالله والآمر بأمر الله]
وقال ابن القيم: 'وكذلك الراضي بالله، كثرت الشكاية من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي -أحد الشعراء الغيورين- يقول:
يا ابن الخلائف من قريش والألى طهرت أصولهمُ من الأدناس
قلدت أمر المؤمنين عدوهم ما هكذا فعلت بنو العباسِ
حاشاك من قول الرعية إنه ناسٍ لقاءَ الله أو متناسِ
ما العذر إن قالوا غداً: هذا الذي ولَّى اليهود على رقاب الناسِ
أتقول: كانوا وفروا الأموال إذ خانوا بكفرهم إله الناسِ
لا تذكرنْ إحصاءهم ما وفروا ظلماً وتنسى محصي الأنفاسِ
وخف الإله غداً إذا وُفِّيَت ما كَسَبَتْ يداك اليوم بالقسطاسِ
في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ أو مهطع أو مُقْنعٌ للراسِ
أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم نارٌ وحارسهم شديد الباسِ
إن تمطل اليومَ الديون َمع الغنى فغداً تؤديها معَ الإفلاسِ
لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الـ متصرفين الحذَّقِ الأكياسِ
ما كنت تفعل بعدهم لو أُهلِكوا فافعل، وعُدَّ القومَ في الأرماس
وكأنه تذكر قول عمر رضي الله عنه لمعاوية: اعتبر أنهم ماتوا وأنهم ما وجدوا.
يقول: وكتب إليه وقد صرف ابن فضلان اليهودي وابن مالك النصراني، يقول:
أبعد ابن فضلان توليِّ ابن مالكَ بماذا غداً تحتج عند سؤالك
خف الله وانظر في صحيفتك التي حوت كل ماقدمته من فعالك
وقد خط فيها الكاتبون فأكثروا ولم يبق إلا أن يقولوا كذلك
فوالله ماتدري إذا مالقيتها أتوضع في يمناك أو في شمالك
يقول: ما بقي إلا أن يقول الملائكة: فذلك، آخر عبارة تقال عادةً في كتب الأقدمين، ولهذا يقال الآن: الفذلكة، والفذلكة هي آخر الجملة ومختصر الكلام.
يقول: وكذلك الأمر بأيام الآمر بأمر الله، امتدت أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب، ولقب بالأب القديس، الروحاني النفيس، أبي الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفي الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريين.
فانظر كيف استنكر الناس والعلماء أن النصراني يلقب بلقب تشريف، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم، فقد أسخطتم ربكم عز وجل}.
يقول: فصادر اللعين عامة مَنْ بالديار المصرية من كاتب وذكر بعض أعماله الخبيثة، وبعض أقواله الشنيعة.
ولا بأس أن نورد بعضاً من كلام هذا النصراني القبطي، حيث يقول: 'نحن ملاك هذه الديار، حرثاً وخراجاً، ملكها المسلمون منا -هذه دعوى الكفار دائماً- وتغلبوا عليها، وغصبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة مافعلوا بنا -انظر! ماذا يقول المجرم- ولايكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع مانأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حلٌ لنا، وبعض مانستحقة عليهم'.
وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:٧٥].
قال: فإذا حملنا لهم مالاً كانت المنة لنا عليهم، واستشهد بأبيات-:
بنت كرم غصبوها أمها وأهانوها فديست بالقدم
ثم عادوا حكَّموها فيهمُ ولنا هيك بخصمٍ يحتكم
فضرب مثالهم بالخمر، فالعنب تهان وتداس وتعصر بالأقدام، لكن بعدما تصبح خمراً يحكِّمونها في عقولهم.
أي: أن الأقباط النصارى أهانهم المسلمون، ثم بعد ذلك أصبحوا هم المتحكمين عليهم.
ويقول ابن القيم رحمه الله: ' ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية، والغيرة المحمدية، فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر ألَّا يُولَّوا شيئاً من أعمال الإسلام '.
ثم كتب كتاباً فيه عبر آيات أحاديث، ومواعظ، وهو طويل جداًَ يبلغ عشر صفحات في مثل حجم خطبة الجمعة، وهو كتاب عجيب كتبه هذا الخليفة أو كتبه له أحد العلماء.