كان لي زميل بيني وبينه عِشرة، وكنت أجهل ارتكابه لبعض الكبائر، وعند اكتشافي لذلك نصحته مراراً، وكان كل مرة يستجيب بلسانه ولكنه لا يكف، مما دعاني إلى هجرانه منذ أكثر من سنتين، حيث أنه لا يزال يقترف هذه الكبائر، وأنا أبتغي بهذا الهجران وجه الله، فهل أدخل -والحال هذا- في أحاديث الوعيد في هذا الباب؟
الجواب
لا يدخل المؤمن الذي يهجر لله، لكن نخاطبك يا أخي من باب آخر، وهو باب الحكمة في الدعوة، فإذا كان كل من عمل منكراً هجرناه فما فعلنا شيئاً، وخاصة إذا كثر أهل المنكر وقلَّ أهل الطاعة والتقوى، ولكن الواجب أن نصبر، وأن ندعو الله له وأن ندعوه ونزوره، ونحرص بكل ما نستطيع وخاصة إن كان قريباً تربطنا به قرابة، أو كان زميلاًَ في العمل، فليس بجيد لك هجرانه وألاَّ تكلمه ولا يكلمك وأنتم في إدارة واحدة، بل ينبغي أن تصبر، وأن تجتهد في نصحه، وكم من غاوٍ هداه الله بعد سنتين أو ثلاث أو أكثر!! أما إن كان من المجاهرين المعاندين الذين لا يسمعون ولا يرعوون فنعم، ففي هذه المسألة حالات، وهذا يرجع إلى تقدير الأخ الداعية، لأن الله تعالى قال:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}[النحل:١٢٥] فالحكمة أن تضع الشيء في موضعه، والحكمة ليست هي الضعف ولا اللين ولا العفو فقط، فهذا جانب من الحكمة، ولكن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، وهذا شيء يرجع إلى تقديرك أنت، فاجتهد، واستعن بالله أن تقدِّر أن هذا يهجر، وهذا لا يهجر، ولذلك يفرق الإنسان بينهما.
وانظروا إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يفرق بين أحوال الذين تخلفوا في يوم بدر ويوم أحد، وبين من تخلفوا في يوم تبوك، فيوجد هناك في أشياء معينة ترجع إلى فقه الواقع -كما قلناه سابقاً- وإلى أمور معينة، فالذين هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الثلاثة الذين خلفوا- لهم صفات ولهم وضع، فمن الحكمة أن يهجروا، بخلاف من قبلهم فهنا حال غير الحال، ووضع غير الوضع.
فالعالم أو الأخ الفاضل طالب العلم عندما يأتي بفاحشة أو موبقة أو ببدعة أو يخالط أناسا لا خير فيهم وتهجره، فهذا جيد، لأنه إذا هجره الأخيار وعنفوا عليه وعاتبوه، يرجى أن يكون هذا الهجر رادعاً له، لكن إذا ما اهتدى في أول الطريق وهجره الأخيار فإنه يستمر مع الفجار، فبينهما فرق لأن الأول نعلم ونطمئن أنه لن ينحرف بالكلية، لأننا إذا هجرناه فسيرتدع، أما ذاك إذا هجرناه فسينحرف، وهكذا توضع الأمور في نصابها.